مدرسة جول جمال في اللاذقية.. الذاكرة المنكسرة

صفوان داؤد:

مدرسة جول جمال واحدة من أقدم المعالم المعمارية في تاريخ اللاذقية المعاصر، تقع بمساحتها الكبيرة وطابعها المعماري الكلاسيكي في قلب الوسط التجاري بالمدينة (ساحة الشيخ ضاهر). شُيّدت هذه المدرسة في عشرينيات القرن الماضي إبان الانتداب الفرنسي. أول ما بنيت كمبنى تعليمي للذكور للسنوات الأولى التعليمية وكانت تسمّى حينذاك بمدرسة التجهيز. وليس من المبالغة أن تمثل هذه المدرسة الذاكرة الحية لمدينة اللاذقية، ففيها تعلّمَ وتخرج رواد جميع الاختصاصات الجامعية دون استثناء تقريباً ضمن الساحل السوري. وتسجل هذه المدرسة التاريخ السياسي والاجتماعي للمدينة بدءاً من الصراعات الطلابية كمنعكس للصحوة المجتمعية المحلية، وكان أغلب طلابها من الناشطين سياسياً انخرطوا ضمن ثلاثة اتجاهات رئيسية: البعث، والإخوان المسلمين، والقومي السوري، في منافسات فكرية ونقاشات ونشاطات ثقافية وعقائدية كانت تنتهي في أحيانٍ كثيرة إلى الاشتباك بالأيدي، خاصة بين البعثيين ونظرائهم من الإخوان المسلمين.

حملت المدرسة وبقيت رمزاً وقيمة وطنية لسكان مدينة اللاذقية، منها خرجت المظاهرات الطلابية المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، ورفض سلخ لواء إسكندرون، ونصرة الشعب الجزائري، والنضال للقضية الفلسطينية. ومنها انطلق البعثيون للمطالبة بالإصلاح في حينها، وكان من بين الذين قادوا المظاهرات الرئيس الراحل حافظ الأسد. لكن هذا التاريخ لم يشفع لهذه المدرسة من مصيرها المخزي. منذ أكثر من عقد من الزمن تم إغلاق المدرسة، وبقيت حتى هذا اليوم ضائعة في بيروقراطية الدولة في مراسلات لا تنتهي بين مديريتي الآثار والمتاحف ومديرية تربية اللاذقية، والقضية استبدال موقع البناء الحالي بقطعة أرض وتحويل المدرسة إلى متحف. ويحاجج مسؤولو وزارة الثقافة أن المدرسة مسجلة لديهم على لائحة التراث الوطني بموجب القرار رقم 195/أ تاريخ 2007. فيما يحاجج مسؤولو مديرية التربية بضحالة التعويض عن المدرسة، ذلك أن وزارة الثقافة عرضت مقابلها أرضاً ملاصقة لمديرية الثقافة في اللاذقية، وهو ما رفضه جميع مديري التربية الذين توالوا على مديرية التربية في اللاذقية.

ما يحزن في الأمر أن كلا الطرفين لاحول ولا قوة له، فيما عوامل الزمن وذبول الذاكرة تفعل فعلها في المدرسة. لقد تم تخريب جزء من السور المعدني ثم انهار لاحقاً جزء من السور الحجري الخارجي لها. وعلى الورق، وفي الكتاب رقم 1172 لعام 2016   الصادر عن مديرية الآثار، أن تكلفة تحويل المدرسة الى متحف تبلغ حوالي مليار ليرة سورية، أي ما يعادل حالياً قرابة 6 مليارات.

ينطبق على مسؤولي مديرية الآثار المثل الشعبي: (من كبّر الحجر ما ضرب). لكن المعضلة في قضية المدرسة ليس فقط استحالة تأمين هذا المبلغ المهول، إنما في أن متخذي القرار في كلا المديريتين لا يملكون لا المؤهلات ولا الإمكانات ولا الموارد لتطبيق اي استراتيجية ممكنة وصالحة تعبر عن القيمة المعنوية لمواطني المحافظة التي تختزنها هذه المدرسة. ومن الشواهد على ذلك، أنه صدرت، وخلال فترة الإغلاق الطويلة عدة قرارات لترميم المدرسة وصيانتها، والأمر اللافت حقاً أن يصدر قرار حكومي لاستلام (مؤسسة الإنشاءات العسكرية) مُهمة ترميم مكان مسجل أثرياً؟! وبحسب تصريح سابق لمدير مشروع صيانة المدرسة لإحدى وسائل الاعلام المحلية، أن صيانة الجدران داخل المبنى تشمل (إعادة إكساء كاملة، بما يتضمنه ذلك من تلبيس رخام، وطينة أسمنتية جديدة أكثر إتقاناً، وبتبديل شبكة الكهرباء والماء)، ونتساءل: هل هذا ترميم؟!

يقول ألبير كامو في روايته الطاعون: (إذا أردتَ أن تعرف مدينة ما ليس عليك أن تعرف سوى كيف يعمل فيها سكانها وكيف يحبون ويموتون). في اللاذقية يبدو أن أهلها لا يعرفون سوى كيف يموتون. خمسة عشر عاماً والمدرسة مقفلة، وبناؤها يتآكل يوماً بعد يوم، وزواياها صارت مكاناً يقضي فيه العابرون حاجتهم، أو يتناولون الكيف في عتمة انقطاع الكهرباء. ولا يعلم أحد بقدر سكان اللاذقية الأصليون كم تُهان ذاكرة المدينة اليوم، والجميع تقريباً باتوا يدركون أن إهمالها مقصود، وهم غير متفاجئين أن يستيقظوا يوماً على خبر من أخبار وزارة السياحة تعلن فيه عن مشروع إقامة فندق مكان المدرسة بحجة جذب السياح وفرص العمل، فيما التماسيح من ذلك المكان الذي اسمه معروف يتربصون تلك اللحظة ليقتنصوها بأبخس الأسعار، وعندهم تبّاً للذاكرة وتبّاً لأجدادهم ممن قادوا المظاهرات والتغيير، والذين لولاهم لما أصبحوا ضباعاً ولا تماسيح.

لا يمكن فصل نظامنا السياسي والاجتماعي عن البنية الثقافية والتعليمية. وكلّ محاولة للتغير أو إعادة البناء لن تفلح إذا لم تُنجز أولاً في العملية السياسية ومبدأ تداول السلطة، وحتى ذلك الحين ربما لن يبقى من الذاكرة المكانية لمدينة اللاذقية سوى العشوائيات وتلك الملوثات البصرية الناتجة عن تخطيطها العمراني البائس.

العدد 1102 - 03/4/2024