فضائيات الأطفال تُعزّز التمييز بين الجنسين

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن الفوارق البيولوجية بين الجنسين تحول دون المساواة بينهما فيما يتعلق بها حصراً. وهذا لا يعني أفضلية أحدهما على الآخر من الناحية الإنسانية والعملية في الحياة، رغم أن أمومة المرأة كانت ومازالت مجالاً للتقديس في المجتمع وعموم الأديان، لما تتمتّع به من احترام وإجلال لعظمة تلك المهمة البيولوجية المتمثّلة بالحمل والإنجاب، اللذين يقتضيان جلداً وصبراً لا يحتمله أعتى الرجال، لكن مقابل تلك العظمة هناك تهميش ودونية ألحقتها المجتمعات والأديان بالمرأة ذاتها، ما أفضى إلى تناقض رهيب لا يتفق ومكانة المرأة/ الأم، فقد اعتمدت هذه المجتمعات وفي كل الأزمان هذه الفوارق بين الجنسين ليس أساساً للتمييز بينهما فقط، وإنما أساساً لاعتبار الأنثى/المرأة كائناً تابعاً للذكر/ الرجل وأقلُّ منه قوّة وشأناً ومكانة اجتماعية، وحتى إنسانية.. فجاءت أسس التربية وأنماطها متوافقة تماماً مع هذا التمييز منذ الولادة، فتكون تربية الأنثى تربية دونية تنضح بالأنوثة تمهيداً لكسب ودِّ الرجل وإرضائه، بينما تربية الذكر تربية متعالية تضجُّ بالتفوّق والقوة، في الوقت الذي أثبتت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية منذ قرنين على أقلّ تقدير أن الفوارق البيولوجية بين الجنسين لا تُمثّل أساساً علمياً لتفوّق الرجل على المرأة، ومن هنا نشأت العديد من الحركات النسوية الداعية للمساواة في الحقوق والواجبات، ما أفضى لاحقاً لاعتماد مؤتمر السكان المنعقد في بكين عام 1995 إلى التركيز بشكل مُكثّف على استخدام مصطلح (الجندر، باعتباره أساس الدعوة إلى إلغاء كل الفوارق التي من شأنها أن تنتقص من حقوق المرأة أو التي تعطي الرجل حقوقاً أكثر من المرأة، وركّز المؤتمر على أن طرح فكرة المساواة بين الرجل والمرأة، فيما يتعلق بالحصول على الحقوق وممارسة الأدوار الوظيفية داخل المجتمع، إنما يتبلور من خلال استخدام مصطلح الجندر.
وهذا لا شكّ كانت قد وضعت رؤاه ومقدماته مقولة سيمون دوبوفوار بأن المرأة لا تولد امرأة، وإنما التربية المستندة على العادات والتقاليد والقيم الدينية التمييزية هي من تجعلها امرأة، والمفارقة هنا أن المرأة/ الأم هي من تعمل على تعزيز تلك التربية، لتماهيها الكامل واللاشعوري مع ما فُرِضَ عليها من قيود مجتمعية دينية جعلتها في وضعية مُفعمة بالقهر والتسلّط والدونية، وبقناعة تامة بما هي عليه باعتباره قدراً ومشيئة لا يجوز مخالفتها أو مواجهتها والتمرّد عليها. وهنا مكمن الخطورة القابع وراء استمرارية وضعية التمييز ما بين الجنسين، إذ تعمل الأم على منح الذكر حقوقاً شبه مطلقة مقابل قمع للأنثى وكبتها، فكل ما هو متاح ومسموح للذكر ممنوع عن الأنثى حتى في مجال مفهوم العيب والعار، إضافة إلى مطالبتها بأداء واجب الطاعة والإذعان لمشيئة ذكور القبيلة، وكذلك حصر أدوارها ومهامها فيما يقتصر على حياة البيت فقط من مهام منزلية تقليدية تتطلبها الحياة الزوجية التي تُهيّأ لها منذ نعومة أظفارها.

بالتأكيد إن هذه الحال لا تقتصر على الأسرة وتربيتها، بل تمتد إلى ما هو خارج نطاقها كالحي والمدرسة والجامعة وغيرها من أماكن أخرى، وصولاً إلى مستويات أعلى تعمل جميعها على تعزيز هذا التمييز. ولعلّ الأكثر بروزاً هنا هو الإعلام، لاسيما المرئي باعتباره الأكثر تأثيراً على شرائح كبيرة من المجتمع، خاصّة فئة الأطفال الشغوفة ببرامج تُبثُ خصيصاً لهم عبر قنوات فضائية عديدة، تنطلق غالبيتها من بنية ذهنية سائدة تحمل خصائص المجتمع وقيمه كاملة، كما أن بعضها جاء خصيصاً لتعزيز القيم الدينية والمجتمعية التي تفرض كل أشكال التمييز بين الجنسين، عبر برامج ومسلسلات تقدم المعلومة للطفل على أنها اليقين الراسخ، فتتغلغل تلك القيم والمفاهيم في شخصية الطفل (من الجنسين) بما يُظهر التفوّق الذكوري مقابل الضعف الأنثوي المطلوب وما يحمله من تعزيز فكرة الخجل والحياء لدى الأنثى كقيمة أخلاقية عليا، إضافة إلى تعزيز الأدوار النمطية لكلا الجنسين فيتماهى معها الطفل معتبراً إياها الشيء الطبيعي الذي لا يجوز تغييره وإلاّ فإنه يخالف كل القيم والمعايير التي فرضتها الأديان والمجتمع، وبالتالي سيكون أمام امتحان عسير.

وللأسف فإن تكاثر هذه القنوات الفضائية جاء متزامناً مع وصول إشعاعات الثورة التكنولوجية الرقمية وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي والمعرفي الذي فتح الآفاق شاسعة أمام تحرير العقول من الغيبيات، وهنا لا يمكننا أن نرى الأمر على أنه محض مصادفة، بل هو أمر مطلوب وبشدّة للتصدي لكل محاولات التغيير المجتمعي على صعيد العلاقة بين الجنسين، أمر تُعزّزه النظم الحاكمة المسؤولة مباشرة عمّا يبثه الإعلام بما يتوافق ورؤاها، في الوقت الذي يتمّ فيه منع العديد من الأعمال الفنية من العرض تحت ذرائع شتّى، وذلك تماشياً مع تيارات دينية تعمل هي الأخرى على فرض حضورها وفكرها على حياة الناس من جهة، مثلما تعمل على تدعيم بقاء تلك النظم وسطوتها على المجتمع.

لا شكّ أن هذا الواقع اليوم، لاسيما بعد مجريات عقد من الحروب والدم والدمار، قد أعاد مسألة الحقوق والواجبات، لاسيما فيما يتعلّق بالجنسين إلى نقطة البداية التي تتطلّب جهوداً حثيثة وصبراً لا يلين من أجل الارتقاء بحياة الجنسين وتفكيرهما معاً إلى ما يحمله من ارتقاء للمجتمع الذي عليه اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يُدرك أن المساواة في النوع الاجتماعي حق أساسي من حقوق الإنسان، والمجتمع وحده بكل ما يحتويه من مكونات ومؤسسات بما فيها المؤسسات الحاكمة، هو من يضمن تلك المساواة من خلال تربية متوازنة تحترم كلا الجنسين بالقدر ذاته.

العدد 1104 - 24/4/2024