امتلكي عقلاً.. لا جسداً!
إيناس ونوس:
رغم كل ما يبدو علينا من مظاهر تدلّ على التمدّن والتحضّر، إلاّ أننا نعيش في مجتمع همّه الأول إطلاق الأحكام الغيابية والمباشرة على المظهر الخارجي، دون أن يتحمّل عناء التفكير أو التبرير، وتنصيب أنفسنا قضاة على باقي البشر، وكأننا أفضل منهم ويحق لنا انتقاد سلوكهم أو لباسهم أو نمطية حياتهم.. وأول ضحية لأحكامنا تلك وعلى الدوام هي المرأة/ الفتاة: كيف تلبس، وماذا تلبس، كيف تتحرك وكيف تضحك، ومن ترافق.. وما إلى ذلك من عبارات نطلقها على الفور ما إن نرى إحداهن، وحتى من قبل أن ترمي علينا التحية.
فمن أعطانا الحق بأن نحاسب هذه أو تلك؟؟
من أعطى المحجّبة صك شرعيةٍ بأنها حاملة لواء الشرف والأخلاق والعفّة؟
من منح السافرة حق امتلاك جواز عبور نحو التحرّر والوعي؟
ومن أفتى بأن اللباس الخارجي هو هوية هذه الشخصية التي تقف أمامنا؟
إن آلية التفكير هذه تدل على شخصية غير منطقية وغير عادلة في أحكامها، فالحجاب لم يكن يوماً معيار الشرف والعفّة والأخلاق، وما نراه اليوم من تشدّد وتعنّت في بعض المظاهر المتعلقة بارتدائه يؤكّد ذلك، لا سيما مع استخدام الخمار وباقي أشكال غطاء الوجه، ذلك أنه يمنع من ترتديه من النظر أمامها، وتالياً سيجعلها تتعرّض لمواقف هي بغنى عنها فيما لو أن حجابها اقتصر على الشكل العادي، كما أن ارتداء الحجاب بصورة معاكسة تماماً سيفضي إلى ابتعاده كلياً عن مضمونه، عندما يصبح لون الحجاب وطريقة وضعه على الرأس مترافقاً مع لباسٍ لا ينسجم مع فكرة الحجاب التي فرضها الدين إحدى وسائل التعبير الصارخ والمستهجن بأن ارتداء الحجاب ما هو إلاّ فرضٌ بالإكراه، أو أنه وسيلة للوصول إلى أهداف لن يتمّ بلوغها من دونه، وها نحن اليوم أمام مشاهد توحي بالاشمئزاز والأذى البصري والأخلاقي والفكري، فإن أجبرتِ أو اخترت ارتداء الحجاب فلتتعاملي معه وفق معاييره، لا أن تبتعدي كل البعد عن ذلك وتستخدميه وسيلة للعبور في شتى المجالات.
وتأتي صورة أخرى رافضة للحجاب والتقوقع بداخله، لتكون أشدُّ أذية للبصر وللعقل، حينما تتعرّى الفتيات عمداَ انطلاقاً من فكرة أنهن متحرّرات، فيبرزن مفاتنهن بشكلٍ صارخ غير آبهات لا بالمكان ولا بالأشخاص من حولهن، فمن الذي علّمكن أن التعرّي تعبير عن الحرية؟ ومن قال لكن إن عدم محافظتكن على خصوصيات أجسادكن هو وعي وتحرّر؟؟
إن الحياة لا تقاس بأحد اللونين ( يا أبيض يا أسود)، والتزمّت والتشدّد بفكرة ما لن يجدي نفعاً لا على المستوى العام ولا على المستوى الخاص، وإن عكسنا هذا على اللباس تحديداً سنجده منطقياً، فالأخلاق والتحرّر والوعي غير مرتبط أبداً باللباس الخارجي، وإنما بالرأس الذي يحمل هذه الأفكار، وبالعقل الذي يتم استخدامه من قبل أصحابه بشكلٍ صحيح، ذلك أن المظاهر التي بتنا نراها كل يوم وعلى مدار الفصول والأيام للأسف لا توحي بأن هناك منطقاً أو عقلاً يحكمها، فكلا الحالتين تصُبّان في المصب ذاته، التشدّد الزائد كما الانفلات المفرط يؤديان إلى النتيجة ذاتها، التي تدل أساساً على قبول من تنتهج أيّاً منهما على أنها قبلت بتسليع نفسها وجسدها وباتت هي من يساهم بذلك ربما أكثر بكثير ممّن أعطوها المجال لذلك.
قليل من الاعتدال، وامتلاك الكثير من الوعي بأهمية الشخصية بعيداً عن المظاهر الزائفة سيؤدي بالضرورة لأن تدرك هذه الإنسانة أنها إنسان عليه الكثير من الواجبات بقدر ما له من حقوق، فالمجتمع كل مترابط، ولا يمكن الفصل بين مكوناته، وكي يسير نحو الأمام لا بدَّ لنا من تنحية الـ( أنا) في بعض الأحيان مقابل نمو الـ( نحن)، أما أن ننتهج فكر (أنا ومن بعدي الطوفان) فلن يجلب لنا وعلينا إلاّ الأهوال والكوارث، وتحديداً بما يخصُّ اللباس الذي نشير إليه هنا، فمن تنتهج نمطية معينة في لباسها ومظهرها لا تنسجم مع المكان الذي تكون فيه ستسيء أول ما تسيء إلى نفسها قبل أي أحد آخر، ثم إنها ذات يوم ستغدو أماً من المفترض بها أن تكون خير مثال لأبنائها وبناتها، لذا فامتلاك الوعي وإدراك الذات يبدأ من العقل أولاً وآخراً، وسينعكس بالضرورة على باقي تفاصيل الجسد والحياة.. فلتمتلكي عقلاً لا جسداً!