شروخ كبيرة وانقسامات حادة في المجتمع الأمريكي ومؤسساته

د. صياح عزام:

يوماً بعد يوم تكشف الأحداث أن النظام السياسي الأمريكي يعاني من شرخ كبير، وهذا ما أشار إليه الرئيس جو بايدن عقب محاكمة الرئيس السابق ترامب في مجلس الشيوخ بقوله: (كشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة الديمقراطية وأنها بحاجة إلى عناية فائقة).

المؤسسات الأمريكية التي كانت الإدارات الأمريكية تتفاخر بها، ويعجب بها البعض أصابها بعد حادثة اقتحام الكونغرس في السادس من شهر كانون الثاني الماضي عطبٌ كبير، خاصة بعد عدم قبول ترامب نتائج الانتخابات الرئاسية وتحريضه على اقتحام الكونغرس (بيت الشعب) لمنعه من التصديق على نتائج الانتخابات المذكورة.

البعض في أمريكا أطلق على أحداث الشغب أول محاولة انقلاب في تاريخ أمريكا. وعلى سبيل المثال، وصفت بيبا نوريس (أستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد) محاولات تعطيل المصادقة بأنها (تقهقر للديمقراطية، ولكن هل تستطيع القول إنها مجرد انحراف من قبل شخص فقد التمييز بين الخطأ والصواب؟

يبدو أن الموضوع أكبر من ذلك، فقبل الانتخابات صنفت الديمقراطية الأمريكية كديمقراطية معيبة من قبل تراتيب الديمقراطية التي تصدرها (إيكونوميست انتجلينس يونيتد).

– إن قوة المجتمعات تتجلى في متانة مؤسساتها الوطنية، ومتانة المؤسسات هي الضامن لسلامة المجتمعات، خاصة في أوقات الأزمات.

إذاً، اقتحام الكونغرس كشف الخلل في متانة المؤسسات الأمريكية.

– أيضاً هناك دليل آخر على الخلل في هذه المؤسسات وأصابتها بالوهن، عندما ظهر عجز المؤسسات الصحية عن مواجهة جائحة كورونا، لاسيما أن الوفيات والإصابات كانت في أعداد متزايدة في داخل أمريكا قياساً بالدول الأخرى.

ويقول فرنسيس فوكوياما في مقالة له نشرتها الـ(فورين آفيرز) الشهيرة: (إن المؤسسات تُخلق لظروف محددة، ولكن الظروف تتغير، وإذا لم تواكب المؤسسات هذه التغيرات، فإنها تفشل في استدامة عملها، لأن هذه الاستدامة مرتبطة بالقدرة على التواؤم مع المعطيات المستجدة).

أيضاً من المهم أن تحقق المؤسسات درجة من الاستقلالية لتتمكن من القيام بالمهام المنوطة بها من دون تأثير خارجي.

ويضيف فوكو ياما قائلاً: (المؤسسات مع الزمن تساعد على إيجاد طبقة لها مصلحة في الوضع القائم، وتقاوم كل محاولات الإصلاح والتغيير والتجديد، أضف إلى ذلك مجموعات الضغط ذات المصالح الخاصة الضيقة والتي تُثقل كاهل المؤسسات الأمريكية و(اللوبيات) القوية التي توجه دفة الحكم باتجاه مصالحها، وخير مثال على ذلك لوبي حمل السلاح الذي يجهض جميع محاولات وجهود إصلاح قضايا السلاح وحمله، رغم المآسي المتكررة من الهجوم على جموع الناس وعلى الأماكن العامة من قبل حاملي هذا السلاح، وتلجأ السلطات الأمريكية في غالب الأحيان إلى تبرير أي هجوم من هذا القبيل بأن صاحبه يعاني من (لوثة عقلية)!

– كذلك تعاني الولايات المتحدة من مشكلة أخرى كبيرة وهي مشكلة (فوارق الدخل) وبشكل أكثر من كل الدول المتقدمة اقتصادياً، وتفيد دراسة نفذها معهد (بيو للبحوث) بأنه في عام 2018 حصل 20٪ من مجموع الدخول العالية على 52٪ من مجموع الدخل الوطني، وأن الفارق بين دخول المواطنين السود يصل إلى 61٪ من متوسط دخل الفرد الأبيض في العام ذاته.

– كما يشير أستاذ العلوم السياسية الشهير هنتغتون في كتابه بعنوان (السياسة الأمريكية ووعيد التنافر) قائلاً: إن المجتمع الأمريكي مؤسس على القيم الفردانية والحرية والمبادئ الدستورية، ومن خلال الممارسة تظهر فجوة المثل مقابل المؤسسات، الذي يطلق أيضاً (شغفاً عقائدياص ضد مؤسسات السلطة لتصحيح مسار الدولة)، وأضاف قائلاً: (إن مثل هذا الأمر ظهر أكثر من مرة في التاريخ الأمريكي).

إذاً، يتضح من خلال ما تقدم أن جذور المشاكل التي تعانيها الولايات المتحدة الأمريكية عميقة وقديمة، ولا تتعلق بشخص أو حزب، وإن كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد أبرز هذه المشاكل وغذاها، بل تتعلق ببنية المؤسسات وذبولها وتجاوزها من قبل العديد من المسؤولين الأمريكيين الكبار، ومن البنتاغون وأجهزة المخابرات، وتتعلق أيضاً بالتباينات العنصرية (مثل المعاملة الخاصة للأمريكيين السود وللمهاجرين) كما تتعلق بأمر مهم جداً وهو التفاوتات الاقتصادية والمعيشية للسكان، وبالطبع فإن هذه الشروخ ستتسع وتتعمق إذا لم تتم معالجتها.

العدد 1102 - 03/4/2024