حول الدعاية الانتخابية والسياسية

يونس صالح:

تشهد نظم الحكم وكذلك العمليات السياسية في بدايات القرن الحادي والعشرين تغيرات مذهلة، لعل من بينها الاستخدام المكثف للدعاية في الحملات الانتخابية، الأمر الذي يستدعي التعمق في فهم تأثير ذلك على الحياة العامة وفعاليات الحكم، وبالأخص على درجة إقبال الجمهور على المشاركة في الانتخابات العامة، وهل أتت الدعاية الانتخابية أكلها؟ بمعنى معرفة طبيعة التأثيرات الإيجابية أو السلبية على السلوك السياسي للناخبين.

لم تعد الحملات الانتخابية المعاصرة مقصورة على موسم الانتخابات البرلمانية، بل أصبحت بمنزلة صناعة اجتماعية مؤسسية بفضل امتداد عمليات الانتخابات إلى كل أنشطة المجتمع، مثل انتخابات المحليات والنقابات والنوادي والجمعيات الأهلية والمنظمات الشعبية بل والشركات المساهمة.

ولا بدّ أن نفترض أن هناك علاقة تبادلية بين كثافة الدعاية الانتخابية والسلوك الانتخابي، وهذه العلاقة تسير في اتجاهين: إيجابي، وسلبي. يعني الأول توسيع المشاركة السياسية، أما الثاني فيعني تقليص مساحة تلك المشاركة، ولما كانت الأولى بمنزلة مسألة بديهية، ذلك أن الهدف الرئيس هو تشجيع الجمهور على المشاركة في عملية الاقتراع وجذبه إلى ممارستها، فإن التحليل المعمق من ناحية أخرى قد يبرز هنا النتائج السلبية، بفعل آلية الدعاية الانتخابية من حيث التغذية المرتدة، أي النتائج العرضية، وكم وطبيعة المرسل للرسالة الإعلامية، ومضمون الرسالة، وكذلك مستواها التقني.

هذه الأبعاد الخمسة سوف توضح لنا مدى التأثير السلبي- بعكس الفهم الشائع من وجود التأثير الإيجابي- للاستخدام المنظم والمتطور للدعاية والتسويق السياسي، بشكل يدعو إلى ضرورة ضبط وتقنين تلك الدعاية الاستهلاكية التي أثرت بدرجة عالية على أساليب وتقنيات الاتصال السياسي، أي أنه يمكن رصد التأثير السلبي للدعاية الانتخابية ذات الخصائص الخمس: وهي الدعاية السلبية والدعاية المفرطة، والدعاية الحكومية، والدعاية الانطباعية، والدعاية الإلكترونية، وذلك على النحو التالي:

– الدعاية السلبية التي يستخدمها المرشحون والأحزاب وصحافة المعارضة بعضهم ضد البعض الآخر، في غمار الحرب السياسية التي تنشب فيما بينهم، والتي تعتمد على النقد والتجريح.. بل والاغتيال الدعائي الشخصي.. إذ يترتب على ذلك الحط من شأن الشركاء، بل وكل الفرقاء، مما يهبط بمستوى الحملة السياسية ويصرف الناس عن الاهتمام بها.

– الدعاية المفرطة التي يلجأ إليها بعض الأطراف، وبخاصة رجال الأعمال والأثرياء بحكم الموارد المتاحة تحت أيديهم، وتكفي عبارة (شلالات المال السياسي) في الحملات الانتخابية لتفصح عن النزعة المتزايدة لكبار رجال الأعمال لبناء مراكز اقتصادية وإعلامية وسياسة شخصية لأنفسهم.

مختصر القول إن الدعاية السياسية المغرضة تؤدي إلى انخفاض توقعات الناخبين في تجديد القيادات، مما قد يدفعهم إلى العزوف عن المشاركة في التصويت.

– الدعاية الحكومية: لا ريب أن الحكومة تتمتع بمركز متفوق في الحملة في وجه المنافسين والمعارضين، وذلك بحكم الموارد المتاحة من إعلام وصحافة، وهدايا جماهيرية ورشاوى انتخابية للعامة من الناس.. وعادة ما تكون الحكومة منحازة بشكل سافر إلى مرشحيها ووزرائها، الأمر الذي يبدد مصداقية العملية الديمقراطية بصورة تغذي اللامبالاة وعدم المشاركة من جانب المواطنين، لأنها بمنزلة تحصيل حاصل، وهذا ما أسفرت عنه بعض التجارب الانتخابية الأخيرة حولنا.

– الدعاية الانطباعية: ونعني بها الإشراف من جانب الصحافة ووسائل الإعلام في استخدام الأوصاف والمصطلحات والصور النمطية الشائعة لوصف النواب والمرشحين والسياسيين. إن كل ذلك يدعم ويزيد من عبثية العملية الانتخابية في نظر الناس ويدفعهم إلى النأي بأنفسهم عن رذاذها احتراماً لأنفسهم.

– الدعاية الإلكترونية: حملت الثورة التكنولوجية إلى الحياة السياسية مضاعفات شتى، لعل من بينها التصاعد في استخدام الوسائل الإلكترونية كالتلفزيون والأفلام وشبكات الإنترنت والبريد الإلكتروني والفاكس وغيرها، وهذه الوسائل تغذي وجود نظم (تخيلية) وسيناريوهات تصورية وشخوص وهمية، تماماً مثل (الأسواق الافتراضية) التي تقوم عليها التجارة الإلكترونية، مما قد يضاعف من كسل البعض ويمتد ذلك الكسل إلى الناخبين ويقعدهم عن الممارسة والمشاركة الفعلية في عمليات الاقتراع العام (يحدث ذلك في البلدان الرأسمالية المتطورة).

الخلاصة إنه بتطبيق نموذج العرض والطلب، تمثّلاً باقتصاد السوق- على الدعاية الانتخابية التي تعتبر بمنزلة جانب الطلب على الأصوات، في حين تمثل استجابة الناخبين جانب العرض، فإن الاستخدام السلبي والمفرط والحكومي والانطباعي والإلكتروني للدعاية يجعل انكماش التصويت أمراً محتوماً، بل واقعاً.. يبرهن على ذلك ارتفاع متوسط تكلفة الصوت الواحد للمشاركين في الانتخابات.

صفوة القول إن تلك النتيجة ليست دعوة إلى نبذ الدعاية السياسية، وإنما هي دعوة للالتزام بقواعد الشرف الأخلاقي وميثاق المهنية الإعلامية التي تؤدي إلى تحسين لياقة الجو السياسي للمجتمع.

العدد 1102 - 03/4/2024