العنصرية الأمريكية تطول الرعاية الصحية؟!
د. صياح عزام:
من المخجل جداً في القرن الحادي والعشرين، وفي دولة عظمى تدّعي ليلاً نهاراً أنها منبع الديمقراطية وحارسها في العالم، وأنها تدافع عن الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، من المخجل والمعيب أن تمارس العنصرية بأبشع صورها في مجال الرعاية الصحة المتعلقة بالمواطنين الأمريكيين السود، فضلاً عن المجالات الأخرى.
أقول هذا الكلام في ضوء ما نقلته إحدى الصحف العربية، في مقال لها جاء فيه: إن طبيبة أمريكية سوداء تدعى سوزان مور أصيبت، بحكم عملها، بفيروس كورونا، وعلى أثر ذلك نُقلت إلى مشفى للعلاج.. ولكن ما الذي جرى؟
بعد إهمال واضح لها ومتعمّد، ساءت حالتها إلى حد كبير، فجرى إجبارها على العودة إلى منزلها قبل أن تتعافى، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع درجة حرارتها وانخفاض في ضغط الدم لديها.
خلال تك الفترة سجلت سوزان مور بالصوت والصورة فيديو شرحت فيه معاناتها مع الفريق المعالج وكيفية تعامله اللاإنساني والبشع معها، وعندما ساءت حالتها الصحية أكثر نقلت إلى مشفى آخر، ولكن مع الأسف بعد فوات الأوان، فقد توفّيت فيه.. والأسوأ من ذلك أن الفريق الذي عالجها دافع عن نفسه مدّعياً وبوقاحة أنها كانت تشكل تهديداً لهم أولاً بالعدوى، وثانياً لأنها جهرت بشكواها ضدهم!
إن قصة الطبيبة سوزان مور ليست الأولى من نوعها، بل هي واحدة من مئات القصص المؤلمة التي تكشف أن العنصرية في الولايات المتحدة متجذرة ومتعددة الأشكال والألوان، والأدهى من ذلك أنها تطول الرعاية الصحية.
وهذه العنصرية في المجال الصحي تحديداً، لها جذور عميقة ومريرة لا يمكن للمواطنين السود من الأمريكيين أن ينسوها، مهما جرى التعتيم عليها، أو طمسها من قبل كتاب التاريخ الأمريكيين، ولعل أكثرها مرارة ما صار يُعرف حتى اليوم بـ(تجربة معهد تاسكيجي).
وملخص هذه التجربة أن علماء في هذا المعهد الكائن في ولاية (ألاباما) كانوا يعكفون في الثلاثينيات من القرن الماضي على إجراء تجارب لعلاج مرض (الزهري)، وقد جندت هيئة الصحة العامة الأمريكية وبالقوة والإكراه 600 رجل من المزارعين الأمريكيين السود الفقراء من أجل إجراء تلك التجارب عليهم، متعهدة لهم بأن تعالج المصابين منهم وأن تستخدم الباقين في عمليات المقارنة، ووعدوهم أيضاً بالعلاج من (الدم السيئ) كما كان يسمى آنذاك، ولكن ما الذي حصل بعد تلك التجارب والوعود؟
– إن المصابين منهم كانوا بأعداد قليلة لم يعالجوا كما يجب، الأمر الذي أدى إلى وفاتهم واحداً تلو الآخر، أما البقية من غير المصابين، فقد توفي عدد كبير منهم نتيجة للتجارب، وأصيب البعض الآخر منهم بأمراض عقلية لا علاج لها، وأصيبوا بالعمى.
لقد ظلت هذه المأساة قيد الكتمان من قبل السلطات الأمريكية المتعاقبة حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فقد نشرت صحيفة أمريكية هذه الفضيحة في مقال لها كشف عملية تحويل المواطنين الأمريكيين السود إلى ما أسمته (فئران تجارب)! ومع هذا لم تعتذر الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن هذه الفضيحة حتى عام 1997 عندما أقدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على الاعتذار عن هذه المأساة ووصفها بأنها (فعل غير أخلاقي ويدعو إلى الخجل).
بطبيعة الحال مثل هذا الاعتذار جاء متأخراً ومن باب (رفع العتب) كما يقال.. وهكذا نخلص إلى القول إن قصة الطبيبة الأمريكية سوزان مور أكدت أن العنصرية الكريهة لا تزال حاضرة بقوة في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد أن أحياها من جديد وغذاها الرئيس الأمريكي ترامب من خلال تصريحاته وسلوكياته العملية في الداخل الأمريكي، وإن هذه العنصرية مورست في التعامل مع جائحة كورونا، فقد ثبت أن نسبة الإصابة بين السود أكثر منها بالمقارنة مع البيض بسبب إهمال مناطقهم.
من جانب آخر هذه المآسي التي لحقت بالسود داخل أمريكا جعلتهم أكثر الجماعات تردداً هذه الأيام في تناول لقاح كورونا لأن ذاكرتهم الجمعية تثير مخاوفهم من إخضاعهم من جديد للتجارب دون علمهم، وهم على حق في ذلك.