حول الحرية الأكاديمية

يونس صالح:

في مجال الحديث عن الحرية تُذكر ألوان مختلفة منها: حرية الفكر والتعبير، وحرية العقيدة، والحرية السياسية، وحرية المرأة وغيرها من الحريات المتعارف عليها.. إلا أن هناك شكلاً من أشكال الحرية لم ينل القدر الوافي من التعريف به في مجتمعنا، ويعرف باسم الحرية الأكاديمية، وتعتبر الحرية الأكاديمية نوعاً من الحصانة التي تمنح لأساتذة الجامعات والعلماء والمدرسين، بحكم دورهم الهام والفعال في المجتمع.

والحرية الأكاديمية تعني حق الأساتذة والباحثين خصوصاً في الجامعات والكليات في الدراسة والبحث والتدريس في مجالس تخصصاتهم دون خوف من السلطة، ودون أي قيد من الإدارة، أو تهديد بفصلهم أو عزلهم من عملهم. ويستند هذا الحق إلى أن البحث والتنقيب الحر المفتوح في شتى المجالات هو أساس التقدم العلمي، والاكتشاف والابتكار، وتنمية العلم والمعرفة، كما أن هذا الحق أساس ضروري للعملية التعليمية وحسن الأداء في الجامعات والمعاهد والبحوث.

والحرية الأكاديمية معترف بها في البلاد المتقدمة، وهي التي تعتبر التعليم وسيلة لزيادة التوسع في حجم المعرفة، وليس وسيلة لتكرار المعلومات والحقائق المعروفة وزيادتها دونما أي تجديد، كما أن الحرية الأكاديمية تضمن أن يكون بقاء الأستاذ الجامعي في وظيفته وترقيته مرتبطة بكفاءته العلمية وبسلوكه الذي يتفق مع تقاليد الجامعة ومعايير الشرف والأخلاق المهنية، نابذة بذلك أي معايير أخرى مثل الانتماءات السياسية أو التعصبات الدينية أو الانتماء العرقي.

ولقد تبلور المفهوم الحالي للحرية الأكاديمية في القرن السابع عشر، وإن كانت قد عرفت درجة معينة من هذه الحرية الأكاديمية، وهي مجرد بعض الحقوق.. ففي أوائل القرن السابع عشر كانت الاكتشافات العلمية خاضعة لاعتبارات فقهية ودينية، وكانت الآراء المتعارضة مع المعتقدات الدينية السائدة في ذلك الوقت تعتبر ضرباً من البدع والضلال.

ورغم ازدهار الحرية الأكاديمية في الدول الأوربية وأمريكا في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنها تعرضت لهزات شديدة عصفت بها وكبلتها بالأغلال والقيود كنتيجة لظهور الأنظمة الشمولية وخصوصاً في ألمانيا وإيطاليا وغيرها.

وللأسف غابت الحرية الأكاديمية أيضاً في الاتحاد السوفييتي، الذي كان من المفترض أن يطلق هذه الحرية، ويشكل نموذجاً يحتذى في هذا الخصوص.

كذلك فإن التضييق على الحرية الأكاديمية حدث أيضاً في أمريكا القرن العشرين، وتمثل في محاكمة المدرس الأمريكي توماس سكويس في مدينة دايتون عام 1925. لقد حوكم وأدين لأنه درس نظرية التطور مخالفاً بذلك قانون الولاية الذي يمنع تدريس النظريات المخالفة للكتاب المقدس في المدارس العامة، ومازال هذا القانون موجوداً للآن ولكن بصرف النظر عن تطبيقه.

وعندما ظهرت المكارثية في أوائل الخمسينيات، وبدأت تحقيقات الكونغرس بتهمة الشيوعية المنسوبة إلى الكثيرين، تعرض عدد كبير من الأساتذة والمدرسين والعلماء والأدباء والفنانين للاستجواب والفصل من العمل.

أما عندنا، فإن تدخل السياسة في الأمور العلمية أصبح من معوقات التقدم العلمي، ولا يمكن أن تكون هناك أبحاث تطبيقية من دون أبحاث أكاديمية.

كما أن الحرية الأكاديمية قد تعرضت في العديد من البلدان العربية لاعتداءات صارخة، مثل الاستغناء عن بعض الأساتذة في الجامعات ونقلهم من وظائفهم، لمجرد الشك في ولائهم للسلطة، كما أن الطلبة قد طالبوا بحقهم في الحرية الأكاديمية وأن يكون لهم دور فعال في وضع المناهج الدراسية ونظم الامتحانات وفي الحياة الطلابية، وحتى تمثيلهم في اختيار رؤساء الجامعات والعمداء والاشتراك في إدارة الجامعة.

إن التأكيد على الحرية الأكاديمية، وعدم وجود شروط الولاء الذي تطلبه بعض الجامعات، وهي تعتبر تعدياً على الحرية الأكاديمية، إن كل ذلك يعتبر عاملاً أساسياً من عوامل التقدم والنهوض العلمي في أي مجتمع من المجتمعات.

العدد 1104 - 24/4/2024