للخروج من أنفاق الحرب.. لا بديل للسوريين عن الحوار والتسامح
إيمان أحمد ونوس:
عبر التاريخ الإنساني، لم تنتهِ الحروب التي شهدها إلاّ عبر الحوار والمفاوضات، وتعميم ثقافة المسامحة والغفران، ولنا في حروب البسوس، داحس والغبراء.. الخ التي استمرت عقوداً من الزمن موعظة. فالحوار من أهم أسس وضرورات الحياة الاجتماعية، باعتباره الوسيلة المُثلى للتعبير عن حاجاتنا ورغباتنا ومشاعرنا، وأهم الطرق والسبل لحلِّ مشاكلنا بشكل حضاري بعيداً عن الإقصاء والعنف.
ومع أنّ التعبير عن الرأي يحتاج إلى فضاء من الحرية الحقيقية والهادفة، علينا أن نبدأ بالواقع الحقيقي لمجتمعاتنا القائمة على جملة من القيم والتقاليد والمفاهيم التي تُعزز الفكر التسلطي والرأي أُحادي الجانب، بدءاً من البيت وصولاً إلى أنظمة الحكم القائمة أساساً على قمع الحريات ومُصادرة الآراء، ومُعاقبة المبدعين في مختلف المجالات التي لا تصبُّ في مصلحتها وتخدم رؤاها، حتى بتنا لا ندرك قيمة الآخر المختلف عنّا ولا نعترف به ما لم يتمثَّل قيمنا ومفاهيمنا وآراءنا، وإلاّ نبذناه كما يُنبَذ الأجرب، ولهذا تجدنا غالباً مجتمعات مُتخلّفة رغم كل مظاهر التحضّر، بسبب انعدام ثقافة الحوار وبالتالي تقلّص فضاءات الوعي والثقافة، الذي يؤدي حتماً إلى اتساع مساحة العنف والقمع اللذين يُصبحان الطريق الوحيدة في التعامل بين أفراد المجتمع.
إنَّ امتلاك ثقافة الحوار يُعتبر مقدّمة وركيزة أساسية لبناء الديمقراطية الحقيقية القائمة على التفاعل والاعتراف بالآخر شريكاً أساسياً ومهماً في النهوض بتلك المجتمعات، لأن الحوار الحقيقي والفعّال يستند أساساً إلى العقل الذي يعتمد عليه منطق الحوار الذي يرتكز على شرطين أساسيين وهما:
1- فهم الآخر، الفيلسوف الألماني بولتوف يترجم هذا الشرط بالقدرة على الإصغاء للآخر، إنه إدراك أن الآخر يودُّ أن يقول شيئاً مهمّاً بالنسبة لي، شيئاً عليَّ أن أُفكّر فيه، وقد يُرغمني، إلاّ إذا دعت الضرورة إلى تغيير رأيي(1).
2- أمّا الشرط المسبق الآخر، فهو الثقة بالآخر، قال الفيلسوف الصيني- لاوتسه-
(إذا لم تثق بما فيه الكفاية، فلا أحد سيثق بك)(2).
على الرغم من بساطة هذين الشرطين، إلاّ أنهما يؤكّدان أنه لا يمكن تَبَني ثقافة الحوار من خلال الدعوة فقط، وإنما تحتاج إلى تحفيز العقول للعمل بها بما تمتلكه من علم ومعرفة وإدراك يؤهلها لتلك المهمّة المُعَقَّدة والحسّاسة للخروج من دائرة الانغلاق والخوف من مواجهة الآخر والتواصل معه وصولاً إلى الغاية المنشودة بعد الحرب ألا وهي المصالحة والتسامح والغفران.
من هنا، ومن أجل الوصول إلى مجتمع آمن أقرّت الأمم المتحدة اعتماد تاريخ انعقاد مؤتمر اليونسكو عام 1995 الذي وافق يوم 16 تشرين الثاني يوماً عالمياً للتسامح من خلال الدعوة إلى محاربة روح التعصب والانغلاق والكراهية، ترسيخًا للسلم الأهلي والعالمي. وقد أقرّ هذا المؤتمر (إعلان مبادئ بشأن التسامح) ورد في المادة الأولى منه ما يلي:
- التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا.
- لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شيء اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتّع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالمياً. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية.
المادة الثانية – على مستوى الدولة
- يستلزم التسامح على مستوى الدولة انتهاج العدل وعدم الانحياز في التشريعات وإنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. ويقتضي أيضاً إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز، فالاستبعاد والتهميش قد يؤديان إلى الإحباط والعدوانية والعصبية.
- بغية زيادة درجة التسامح في المجتمع، يجب على الدول أن تُصادق على الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان، وأن تصيغ عند الضرورة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكل فئات المجتمع وأفراده.
بعد كل ما تقدّم أعلاه، وبعد سنوات عجاف عشر من حرب التهمت كل مقدراتنا الإنسانية النفسية والمادية والاجتماعية… الخ. بعد خسارات رهيبة على مختلف المستويات العامة والخاصة والرسمية، لا بدّ من حلٍّ يوقف قدر الإمكان وجع السوريين وقهرهم.. ولا بدّ من حكماء يلجمون هذيان حمقى متعطّشين إلى الجاه والمال مهما كانت الطرق المؤدية لهذيانهم.. وآخرين متعطّشين أبداً للدم والخراب والثأر والانتقام.
بعد كل ما جرى من تخوين وتكفير وإقصاء ورفض على مدى سنوات الحرب، لا بدّ أن نقف وقفة تأمل وتساؤل.. إلى أين نحن ماضون!؟ وهل سنعيد بكل ذلك الرفض والحقد بناء أنفسنا وبلادنا؟ هل يمكننا العيش مُجدّداً ونحن مفعمون بكل هذا الغلّ والحقد المُعشّش في الصدور؟
هل من خيار آخر أمامنا سوى ليّ عنق هذه الحرب المجنونة كي تخمد بنسائم تسامحنا ومغفرتنا لأنفسنا قبل غيرنا؟ هل من خيار لنا سوى طمر كل وجعنا وقهرنا في قمقم نرميه بعيداً بعيداً عن أجيالنا وأيامنا المقبلة كي نستعيد بعضاً من إنسانيتنا وأخلاقياتنا التي شوّهتها سنوات الدم والدمار!؟
هل من خيار لعموم السوريين أينما كانوا، وكيفما ومن كانوا إلاّ أن يرسموا من جديد مستقبلهم المزركش بفسيفساء تنوّعهم واختلافاتهم، لتعود سورية بحق مهد الحضارات وجنة الله على الأرض!؟
وأنتم يا من ترفضون الصفح والغفران والتسامح تحت ذرائع وحجج واهية.. حتى أمهات الشهداء ومن كل الأطياف يرغبن وينشدن سلاماً وأمناً لوطن روّي بطهر دماء أبنائهن.. ولتعلموا أن كل حروب العالم عبر التاريخ، لم تنتهِ إلاّ عبر الحوار والمعاهدات والتسامح والمصالحات.. وأعتقد جازمةً أننا نحن السوريين لسنا استثناء، علينا أن نخرج من بوتقة مؤيّد ومُعارض.. وطني وخائن.. كُلنا أبناء سورية.. وكلنا تحتاجه سورية لنهوضها من رماد حربها ووجعها.. كي يُزهر ياسمينها فتعبق بأريجه فضاءات الكون محبة وتسامحاً غفراناً.
يقول نيلسون مانديلا رئيس جنوب إفريقيا:
(ندرك أن المصالحة وبناء الدولة ستظلُّ كلمات جوفاء إذا لم تكن مبنية على جهد مُنسّق لاجتثات الجذور الحقيقية لماضي الصراع والظلم. فأمننا الوطني وبقاء ديمقراطيتنا الفتية يتوقفان، قبل كل شيء آخر، على برنامج تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب. وستضمن إعادة الإعمار والتنمية لجميع مواطني جنوب إفريقيا نصيباً في الحياة، ومصلحة مشتركة في رفاهية البلد ككل).
هوامش:
(1-2) فن الإصغاء، إيريك فروم.