على شرف الذكرى الثالثة بعد المئة ثورة أكتوبر الاشتراكية ومهامنا(*)

طلال الإمام_ ستوكهولم:

لعبت ثورة أكتوبر الاشتراكية منذ قيامها عام 1917 دوراً مفصلياً على المستويات المحلية (الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية)، والعالمية في أوربا، آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية.

نعتقد أن تقييم حدث تاريخي بحجم ثورة أكتوبر يتطلب من جميع المفكرين الشيوعيين واليساريين أن ينظروا غلى هذه التجربة، بإيجابياتها وسلبياتها، من أجل استخلاص الدروس اللازمة للنهوض اللاحق. نقول ذلك لأننا لاحظنا أن تقييم ذلك الحدث الكبير الذي طبع القرن العشرين بطابعه يجري بأشكال مختلفة:

– هناك من اعتبر أن انهيار التجربة حدثَ فقط بفعل مؤامرة خارجية، متناسياً أو قافزاً فوق الأسباب الداخلية/ الذاتية، التي أعتقد أنها كان لها الدور الأساسي.

– هناك من اعتبر أن التجربة بمجملها فاشلة وليس لها أي دور إيجابي، لدرجة التشكيك بمجمل ثورة أكتوبر، والتشكيك أيضاً بالنظرية الماركسية التي قامت الثورة على أساسها، مدّعين أن النظرية الماركسية لم تعد صالحة. ترافق ذلك مع التبشير بالليبرالية الجديدة وأيقونة (الديموقراطية) فضلاً عن نظريات نهاية التاريخ لفوكو ياما والانتصار التام للرأسمالية. وهناك أحزاب وشخصيات شيوعية وماركسية غيّرت اسمها ولحقت بركب اللبرلة والانعطاف نحو اليمين.

– برزت أحزاب وقوى شيوعية ويسارية تجابه هذين التيارين، باعتماد تقييم موضوعي لثورة أكتوبر بإيجابياتها وسلبياتها، عبر إعادة قراءة الماركسية قراءة عصرية تحاكي حاجات التطور وحاجات الناس اليومية، وتبين للجماهير طريق الخلاص من الاستغلال، مع مجابهة التيارات التي تحاول تشويه الماركسية بأشكال مختلفة، والتركيز على قوانين الماركسية الأساسية: (الصراع الطبقي، فائض القيمة، ووحدة وصراع الأضداد). 

أعتقد أن الوفاء لثورة أكتوبر يقتضي تقييمها موضوعياً، وذلك عبر وضعها في الإطار التاريخي الصحيح من حيث:

الأسباب التي أدت إلى قيامها، إنجازاتها المحلية والدولية، مسيرتها عبر أكثر من سبعة عقود، نجاحاتها ومنجزاتها، وإخفاقاتها.

طبعاً، إن الإجابة عن مجمل التساؤلات أعلاه تتطلب مئات الصفحات وربما أكثر، لذلك سوف أحاول المرور على المفاصل الأساسية بإيجاز شديد.

 من بلد شبه متخلّف

إلى غزو الفضاء

قامت ثورة أكتوبر نتيجة حاجة موضوعية وذاتية في روسيا القيصرية، وليس فقط تحقيقاً لطموحات ثوار حالمين بعالم أفضل خالٍ من الحروب والفقر والمرض، مع توزيع عادل للثروة الوطنية. 

كيف كان الوضع في روسيا عشية ثورة أكتوبر؟

كانت روسيا القيصرية بلداً متخلفاً اقتصادياً، وتعليمياً واجتماعياً، بلداً أنهكه الفقر والحروب، بلداً فلاحياً يسيطر عليه الإقطاع (1.5% من الإقطاع يملك 25% من الأراضي). جاء في إحصائيات أجريت عام 1904 في سانت بطرسبورغ أن معدل سكان الشقة الواحدة يبلغ 16 فرداً، أي غرفة واحدة لكل 6 أشخاص دون مياه صالحة. نسبة البطالة مرتفعة مع تدني ظروف العمل. كانت ساعات العمل طويلة (10 ساعات يومياً لمدة ستة أيام في الأسبوع، والبعض كان يعمل 11 و12 ساعة يومياً) مع عدم وجود ضمانات أو رعاية صحية. ارتفعت ديون روسيا في عام 1916 إلى 50 مليار روبل.

باختصار كانت روسيا وكان الشعب الروسي يعاني من الأمية والحروب مع اليابان، ثم الحرب العالمية الأولى، واضطهاد الإقطاعيين، وبطالة، وديون واضطهاد سياسي.. باختصار شديد هذا الوضع عشية ثورة أكتوبر مهّد لقيام الثورة، لأن الشعب الروسي بحاجة إلى تغييرات جذرية شاملة اقتصادية، اجتماعية وسياسية، وقد توفرت شروط الثورة: فوق لم يعد باستطاعته الاستمرار في السلطة، وتحت (الشعب) لم يعد يحتمل أكثر، والأداة السياسية (الحزب الشيوعي) للتغيير موجودة وبقوة. هذا ما أدركه لينين الذي قاد حزباً شيوعياً ثورياً مسترشداً بالنظرية الماركسية. فقام بثورة أطاحت بالقيصرية وأقامت لأول مرة سلطة العمال والفلاحين والجنود، معلنة بدء عصر جديد ليس في تاريخ روسيا فحسب بل وفي العالم، وليس مصادفة أن يكون أول مراسيم الثورة مرسوما السلم والأرض.

الحرب الأهلية

ما إن انتصرت الثورة وبدأت تطبيق برنامجها السياسي، والاقتصادي الاجتماعي، حتى اجتمعت القوى المضادة لها داخلياً وخارجياً، والتي تضررت مصالحها، وبدأت الحرب الأهلية. لم تكن الحرب بين البلاشفة الروس والبيض فقط، بل تدخلت فيها قوى خارجية وشنت جيوش بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وأستراليا، بالتعاون مع قوى الثورة المضادة داخلياً، حرباً مدمرة. استمرت الحرب ثلاث سنوات (1918-1921) كانت نتائجها كارثية على جميع المستويات: قتل خلال الحرب حوالي مليوني روسي، دُمرت المصانع والجسور، نهبت الماشية والمواد الخام. انخفض ناتج المناجم والمصانع عام 1921 إلى 20 % من مستوى ما قبل الحرب، كما انخفض إنتاج القطن إلى 5% والحديد إلى 2% مقارنة بمستويات ما قبل الحرب.

بعد انتصار الثورة في الحرب الأهلية، بدأت في تطبيق برنامجها السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، برامج إعادة إعمار البلاد، حملات محو الأمية عبر التعليم المجاني للجميع، إنهاض الصناعة والزراعة وتقوية الجيش الأحمر. استمرت مرحلة النهوض الشامل في البلاد حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي شنتها النازية الهتلرية متحالفة مع القوى الفاشية. وكان أحد أهدافها، كما أعتقد، وأد ثورة أكتوبر.

الحرب العالمية الثانية

فقد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية أكثر من عشرين مليون إنسان، مع خسائر فادحة في البنى التحتية والزراعة، كما دمرت مدن بأكملها. لكن رغم هذه الخسائر البشرية والمادية الجسيمة أبلى الجيش الأحمر بلاءً كبيراً وأبدى بطولات ساهمت مساهمة فعالة وأساسية في دحر النازية وتخليص أوربا والعالم من الفاشية الهتلرية، وارتفع العلم الأحمر فوق الرايخستاغ معلناً الهزيمة الكاملة للهتلرية.

تحول الاتحاد السوفيتي بعد الانتصار على الفاشية إلى ورشة عمل ضخمة في جميع المجالات. نهضت البلاد وحققت إنجازات كبيرة على الأرض كما في الفضاء، فكان يوري غاغارين أول رجل يغزو الفضاء، وفالنتينا تيريشكوفا أول امرأة رائدة فضاء.

نعم، بكلمة: نقلت ثورة أكتوبر روسيا من بلد شبه أمي ومتخلف إلى أول بلد يغزو الفضاء، مع إنجازات في مختلف مجالات العلوم وتقدم صناعي وثقافي. 

نشأ بعد الحرب العالمية الثانية توازن عالمي جديد: المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.  أدى هذا الوضع إلى سباق تسلح كبير بينهما وحروب محلية (الحرب الباردة)، لكن من جهة ثانية حصلت العديد من بلدان آسيا، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، في ظل هذا التوازن العالمي، على استقلالها السياسي والاقتصادي، ووجدت الأحزاب والحركات الشيوعية واليسارية ظهيراً كبيراً في نضالها من أجل إنجاز الاستقلال السياسي والاقتصادي. إذ قدم المعسكر الاشتراكي لدول العالم الثالث دعماً واسعاً تمثّل في: بناء السدود، المصانع، الخطوط الحديدية إضافة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتدريس آلاف الكوادر العلمية.

استمر النهوض الشامل للاتحاد السوفيتي وحلفائه في جميع المجالات حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي، فقد بدأت تظهر آنذاك بوادر الترهل والانهيار. كما حصلت مواجهات ساخنة وباردة بين المعسكرين في أكثر من منطقة، إضافة إلى سباق التسلح (حرب النجوم) وانتشار البيروقراطية والفساد.                         

الانهيار 

انهار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بسرعة غير متوقعة أذهلت العديد من المتابعين، وانهار معه التوازن الدولي، مؤدّياً إلى سيطرة قطب واحد. ترافق ذلك مع حملة فكرية واسعة ضد النظرية الماركسية تبشر بسيطرة الرأسمالية والليبرالية الجديدة.

انهارت أحلام ملايين البشر بعالم دون حروب ولا استغلال. فقدت القوى الشيوعية واليسارية والحركات التقدمية سنداً قوياً.

لقد وضع هذا الانهيار الحركة الشيوعية وجميع قوى اليسار في مأزق فكري، وإيديولوجي وتنظيمي. هذا الانهيار الكبير دفع البعض للخجل من اسمه وتاريخه (بعض الأحزاب غيّرت اسمها)، وهناك من تمسك بشكل اعمى بالتجربة وكأن شيئا لم يحصل. بالمقابل هناك من حاول ويحاول تحليل أسباب الانهيار دون التخلي عن الأساس النظري (الماركسية) ودون التخلي عن اسمه، من اجل متابعة النضال في الظروف العالمية الجديدة والبالغة التعقيد.

لماذا حصل الانهيار؟

لا أعتقد أن أحداً يملك حتى الآن الإجابة كاملة. هناك اجتهادات ومحاولات جدية من مفكرين ومناضلين تقدّم إجابات وتحدد أسباب الانهيار. لكن السؤال مازال مفتوحاً ويخضع لتأويلات مختلفة.

من جهتي وبتكثيف شديد، أعتقد أن هناك عوامل خارجية استندت على عوامل داخلية (ربما هي الأساس) أدت لهذا الانهيار /الزلزال.

العوامل الداخلية متشعبة أهمها:

* قراءة وتفسير إرادوي للماركسية من قبل الأحزاب الحاكمة (أليس من المستغرب مثلاً ألا ينظر حزب يسترشد بالماركسية، التي أحد أهم قوانينها الديالكتيك، إلى أن حاجات الناس المادية والروحية متنامية!؟).

* وضع تعارض مصطنع بين الماركسية والديمقراطية.                                        

* تفشي البيروقراطية، والفساد، في أجهزة الحزب والدولة.

* اغتراب الناس عن أحزاب تدّعي تمثيلها.                               

* سيطرة الأجهزة الحزبية على مفاصل الدولة وبشكل قسري.

* إخضاع النظرية لمصالح الحزب الحاكم بدل إخضاع الحزب للنظرية.

* الجمود والترهل الذي أصاب جميع مفاصل الدولة والمجتمع.

* عدم حل المسائل القومية لشعوب الاتحاد السوفيتي بالشكل الصحيح.

أما العوامل الخارجية فتتلخص في:

ا- الصراع بين المعسكرين: خلق بؤر توتر وساخنة، وتحريض إعلامي، وحصار على التقنيات.

2- سباق التسلح (حرب النجوم).

3- مختلف أشكال المساعدات الخارجية قُدّمت على حساب رفاهية الشعب السوفييتي في الداخل.

4- الصراعات والانشقاقات الفكرية والإيديولوجية بين مختلف أحزاب وبلدان المعسكر الواحد.

5- الاختراقات/ الخيانات التي وقعت في قيادات عدد من الأحزاب الحاكمة في البلدان الاشتراكية.

إن الاحتفال بذكرى ثورة أكتوبر ليس مجرد طقس احتفالي، إنما محاولة لدراسة تلك التجربة، التي طبعت القرن العشرين بطابعها، بإيجابياتها وسلبياتها، واستخلاص الدروس، كي تستعيد الأحزاب الشيوعية واليسارية دورها في مواجهة المد اليميني الفاشي، والتطرف الديني/الطائفي الذي يجتاح العالم، وهو يجلب الفقر، والحرب وخراب البيئة.

إننا ونحن نلتقي عشية الذكرى 103 لثورة أكتوبر الاشتراكية التي ألهمت عقول وقلوب ملايين البشر، الثورة التي ساهمت مساهمة أساسية في دحر الفاشية الهتلرية والانتصار عليها، الثورة التي كان لها الفضل في استقلال العديد من بلدان العالم وقدمت لها مساعدات جمة، الثورة التي خرّجت آلاف الكوادر العلمية في العالم الثالث خصوصاً، لابد من أن نحيّي روادها وننحني أمام شهدائها.                                     

إن أفضل شكل للاحتفال بها هو في متابعة تقاليدها الثورية، في مواجهة وبحزم كل من يحاول تصويرها على أنها خطأ تاريخي، وينظر إلى سلبياتها فقط مع السعي لتشويهها وشطبها من سفر التاريخ.     

فلنعمل مستلهمين القيم النبيلة لثورة أكتوبر، من أجل متابعة إنجاز مشروعنا

في بناء عالم خالٍ من الحروب، والفقر، والمرض، والجهل، وعادل في توزيع ثرواته.

المجد لثورة أكتوبر الاشتراكية!

عاشت الشيوعية!

======

 (*) هذه مداخلتي في الاحتفال الذي نظمته منظمة الحزب الشيوعي العراقي في السويد، يوم السبت 7/11/2020، وألقيتها باسم الحزب الشيوعي السوري الموحد. 

العدد 1102 - 03/4/2024