النشرة الجوية

د. أحمد ديركي:

منذ فترة وجيزة، نسبة لما قبل اختراع الراديو والتلفزيون وحالياً الإنترنيت، بدأت تُذاع (النشرة الجوية) إلى حد أصبحت فيه جزءاً لا يتجزء مما يذاع على الراديو أو يعرض على التلفزيون والإنترنيت.

وأكثر أوقات عرضها يكون إما مباشرة قبل (النشرة الإخبارية) وإما بعدها مباشرة. ومن يتتبع (تاريخ) النشرة الجوية يمكنه لحظ مدى تطورها وكمية الزيادة في كم المعلومات ودقتها، وطول الفترة الزمنية لحالة الطقس القادمة لتصل في بعض الأحيان إلى فترة أسبوع بأكمله، وعلى الإنترنيت يمكن معرفة حالة الطقس لمدة تتجاوز في بعض الأحيان فترة 15 يوماً، وفي المواقع المنخصصة في هذا المجال يمكن معرفة المزيد والمزيد. أما على الراديو والتلفزيون فالأمر طبعاً يتوقف على الفترة الزمنية المحددة لعرض النشرة الجوية. وقد وصل كم المعلومات المعروضة إلى حد أصبح فيه ما يُعرض من معلومات متعلقة بحالة الطقس لا يفهمه إلا المتخصصون في هذا المجال، طبعاً إضافة إلى المعلومات البسيطة للجميع، من ذكر لدرجات الحرارة، إلى اتجاه الريح وسرعتها، والرطوبة، والضغط الجوي.

يمكن الجزم أن هناك نسبة كبيرة من البشر تتتبع حالة الطقس وإن كانت لا تهتم بالنشرة الاخبارية، وهما أمران منفصلان متصلان، ولكن توقيتها ما قبل (النشرة الاخبارية) أو بعدها، له رمزية متعلقة بقضية نسبة المشاهدة على التلفاز، ويمكن القول إنها لم تعد ذات أهمية خارج (عالم) التلفزيون بعد ظهور الإنترنيت. الاستماع إلى النشرة الجوية ليس للمتعة او للترفيه، كما في بقية البرامج، والاطلاع عليها من خلال الإنترنيت كذلك الأمر، بل من أجل (الالتزام) بإرشاداتها لفعل مستقبلي.

لتوضيح الفكرة: قبل الذهاب غداً إلى العمل نستمع إلى النشرة الجوية مساء اليوم كي نعلم ماذا نرتدي في الغد، لأن ما يُرتدى من ملابس يرتبط ارتباطاً جذرياً بحالة الطقس، والوالدان يستمعان إليها في المساء كي يعلما ما عليهما فعله لأطفالهما في الغد… واليوم مع الهواتف (الذكية) أصبح الأمر أكثر تفصيلاً.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتخطاه لتصبح (النشرة الجوية) جزءاً من أفعال حياتنا اليومية المستقبلية! فعلى سبيل المثال لا الحصر، وإن أصبح الأمر نادر الحدوث حالياً في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي نمر بها، قبل القيام بأي رحلة سياحية، سواء كانت في داخل البلد أو خارجه، حاول مسبقاً معرفة حالة الطقس في المنطقة، أو البلد، المنوي الذهاب إليها للاستجمام، من أجل معرفة نوعية الملابس التي يجب علينا أخذها معنا.

دخل (علم المناخ) إلى أفعال حياتنا اليومية المستقبلية وأصبح محدداً لها. وفي الوقت عينه فهو علم يتخطى أفعال حياتنا اليومية المستقبلية ليدخل في مجالات علمية متعددة اخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر علم الملاحة الجوية والبحرية. ومن جهة أخرى يعتمد هذا العلم على علوم طبيعية متعددة مثل علوم الرياضيات، لا علم الرياضيات، لتفرع هذا العلوم وبقية العلوم إلى اختصاصات متعددة، وعلوم الفيزياء وعلوم الكيمياء والبيولوجيا وغيرها، ما يدخلنا إلى مفهوم حديث يُعرف بـ(تداخل العلوم) (interdisciplinary)، وهذا مجال آخر لن نخوض فيه.

أي نستمع اليوم للنشرة الجوية لنحدد فعلنا غداً، بعبارة أخرى لقد حتمت معلومة اليوم فعل الغد. ما يضعنا أمام إشكالية يندر مقاربتها. هل دخل العلم ليحطم جدار عزل الغد عن معرفة اليوم؟ يمكن الإجابة بشكل أولي: نعم، مع التركيز على (شكل أولي). ولمَ (أولي)؟ السبب يعود في هذا أن العلوم برمتها ما زالت حديثة العهد، نسبة لتاريخ البشرية. فالإنسان بجنسه الحالي والمتعارف على تسميته بـ (homo sapiens) وُجد على الأرض منذ ما يقرب 3.5 ملايين سنة، وعرف الاستقرار، أي الزراعة، منذ ما يقرب 7000 سنة، وبدأ باكتشاف قوانين الطبيعة، بالمعنى العلمي لكلمة (قوانين الطبيعة)، منذ ما يقرب 600 سنة ق. م. أي يمكن القول إن الإنسان عرف العلوم منذ ما يقرب 3000 سنة، وعمل وما زال يعمل على تطويرها. ما قبل هذه الفترة كان الفكر (الغيبي) هو الفكر المهيمن على كل شيء وبخاصة (احتكاره) معرفة المستقبل ومصير البشرية، ومنها مثلا (استدعاء) إله المطر ليرسل المطر في مواسم الجفاف لينقذهم من الموت المحتم إن استمر الجفاف!

ولكن مع بدايات تشكل معرفة القوانين الطبيعية دخل الفكر العلمي في صراع مع الفكر الغيبي، صراع يتأجج مع كل تطور في العلوم الطبيعية، لأنه يُسقط الاحتكارية الوهمية للفكر الغيبي.

إن كان (الغد) لا يعلمه إلا من هو (فوق الطبيعة)، فلماذا نستمع اليوم إلى النشرة الجوية لنحدد فعلنا في الغد؟ لا يعني هذا أن العلوم الطبيعية قد اكتملت، بل هي ما زالت في بداياتها، وهذا ما يمكن لحظه من خلال ما يُعرف بـ(هامش الخطأ) (margin of error) المسموح به في كل علم، ولكنه هامش يتقلص مع مرور الوقت وتطور الفكر البشري.    

العدد 1102 - 03/4/2024