لذّة الرّوح.. وبلوغ المُثل

عباس حيروقة:

ما من متتبع للحراك الحياتي الدنيوي الاجتماعي لدى معظم المتصوفة، إلا ويدرك أنهم ابتعدوا كلّ البعد عن السعادة والتلذذ بها كمفهوم عام قائم على التمتّع بالطيّبات مما أحلّه الله لهم.
 بل نرى أنّهم في شقاء وتشرّد، حزن وبكاء، وهذيانات شخصية، وشعر متألق شفّاف، وعذابات تعزفها ربابات قلوبهم الممعنة في العذوبة والنقاء، إلاّ أنّهم يحدّثونك عن لذّة صافية حقيقية والتذاذ ونشوة تتلبّس قاماتهم.
ونعود لنسأل في هذا الإطار: هل تكمن السعادة في اللذة، أم تكمن اللذة في السعادة؟!

وهل السعادة سعادة جسد، أم قلب، أم عقل، أم روح، أم نفس؟!

 وكيف ومتى تتحقق؟! هل تسعد الروح وتستلذّ بسعادة الجسد واستلذاذه؟

 وهل يسعد الجسد بما يتحقق للنفس من هجرة وسفر وتحليق في الملكوت الأعلى،

وتحظى بما تحظى به من فيوض نور وكشف واقتراب؟

وهل اللذّة خير؟! أم اللذّة لذّتان؟ وهل السعادة في المحبة والفضيلة والأخلاق، أم في التعبّد والنسّك والزهد؟! أم في الفعل في المعرفة معرفة الله، والحقيقة والكمال؟!
ابن سينا لا يرى السعادة في اتباع كل لذة بل يراها في الكمال والخير، يدل على ذلك انقسام اللذات عنده إلى عالية وخسيسة (فاللذّة تنشأ عن الشعور بالكمال أو إدراك الكمال، وكلّما كان الكمال الذي تحصل عليه النفس أتمّ وأفضل كانت اللذّة التي ندركها أبلغ وأشد). ويقول ابن سينا في كتابه النجاة: إننا في عالم المادة، يمنعنا حجاب الحس والشهوة وانغماس بدننا في الرذائل من بلوغ المثل العليا التي نطلبها ونحنّ إليها، ولكنّا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب من أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذّة السامية، فحينئذٍ ربّما تخيّلنا منها خيالاً طفيفاً خفيفاً.
إنّها سعادتهم الخاصة جدّاً بهم وحدهم، والتي لا يمكننا أن نتلمس حقيقتها إلا بمعايشتها تماماً كما هم يعايشون حيثياتها الزمكانية.

ومن جهة حَفِلَ التاريخ بكتّابه وكتبه ومفكريه وفلاسفته ورموز العصور والأزمان من الذين رأوا أن التصوف والمتصوفة، هم كما قلنا سابقاً مصابيح الدجى وينابيع الرشد والحجى، من أمثال القشيري في رسالته القشيرية، والسراج الطوسي والسهروردي في عوارف المعارف، وغيرهم من كتاب معاصرين مثل عبد الرحمن بدوي، وأبي العلا عفيفي، وأحمد أمين، وعلي زيعور، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وعلي حرب و…الخ من الذين أنصفوا التجربة بحق، ومنهم من كان أقدر على استيعاب وتفهّم تلك الحالات (الشطح) ضمن سياقاتها التراكمية للتجربة، ضمن واقع مجتمعي معرفي ديني فلسفي خاص بهدف الإنصاف من دون تهجّم وتشنيع ولا مدح وذوبان إزاء العطاء الصوفي.
فعلينا أن نكون أكثر جدارة بقراءة فكر إشكالي، حيّر تاريخياً كل فقهاء الكلام وحتى العلماء العقليين سواء الفيزياء والرياضيات والطب وغيرهم… فكر إشكالي يحمل الكثير من المعاني والدلالات والقابل لأكثر من قراءة بمختلف الحالات الزمكانية.

العدد 1104 - 24/4/2024