العلمانية والسؤال عن مصير السيادة؟
بولس سركو:
إن بحث قضية العلمانية في إطار الخصوصية السورية لا يكتمل دون بحثها في الإطار العام للسياسة الدولية، فحتى الثمانينيات من القرن الماضي كانت العلمانية هي الوجهة الاساسية في النظام العالمي غرباً وشرقاً، رغم تباين تفسير كلا الجهتين لبعض تفصيلاتها، بقي البديهي المتعارف والمتفق عليه أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة والسياسة. ونجد في ويكيبيديا توضيحاً أن الانشطة البشرية والقرارات، وخصوصاً السياسية، يجب ألا تخضع لتأثير المؤسسات الدينية، وأضافت الموسوعة إلى ذلك نبذة موجزة عن جذور الكلمة التي تعود لفلاسفة يونانيين قدماء مثل أبيقور، ثم ظهورها بمفهومها الحديث أثناء عصر الأنوار على يد عدد من المفكرين أمثال فولتير وسبينوزا وراسل …الخ، في تفسيراتهم للنظام الكوني بعيداً عن الدين. ولكن التأكيد الأهم الذي يعنينا هو أن العلمانية ليست ضد الدين، إلا من وجهة نظر الموسوعة العربية الصادرة في السعودية التي تعتبرها جزءاً من (التيار الإلحادي) وهنا جوهر المشكلة ونقطة المفارقة الرئيسية الكبرى.
منذ أيام فقط نشرت جهة دينية على مواقع التواصل الاجتماعي خطاباً يؤكد تلك الوجهة في سورية، يقول اختصاراً: (عوامل سياسية ساعدت على نشوء الإلحاد، مثل نشأة الشيوعية التي تبنّت الإلحاد كأيديولوجيا، فلعب هذا العامل دوراً مهماً وكبيراً في نشر الإلحاد في العالم (ما يعني أن الرؤية السعودية العدائية للعلمانية توسعت وتعمّمت، وأن الحكم الإلغائي عند التيار الديني لم يتبدل، وأن الاستخدام الدعائي للمؤثرات ذاتها مستمر رغم النوايا الحسنة التي بدرت عن العلمانيين، واعترافهم بالأديان وحقوقها.
على سبيل المثال، حين أقر العلمانيون الماركسيون السوريون، بعد جردة نقد ذاتي، أنهم ارتكبوا أخطاء بحق الأديان، لم يقابل التيار الديني هذا الاعتراف سوى بمزيد من التهجم والإقصاء، وذلك ليس فقط لأنه تيار يقوم على التعاضد العشائري ومفهوم أمة المؤمنين، ويمزج بين الديني والزمني في جوهر فكره ونشاطه بل أيضاً لأنه موظف إمبريالياً في الحرب على العلمانية، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي والعالم برمته يتدهور، ويشهد نكوصاً منهجياً مرعباً مخالفاً للمجرى الطبيعي لتطور الحياة البشرية والعقل والمعرفة، فقد وُضعت القوى العلمانية الماركسية خصوصاً في قفص الاتهام، وحُشرت وهمّشت وعنفت، وبعثت في المقابل القوى الدينية وازدهرت، ليس بإمكاناتها الفكرية الماضوية العاجزة أمام العقل العلمي المتطور، بل بغرفة الإنعاش الغربية، فنجاح الوهابية السعودية، وانفصال مسلمي الهند، وزرع دولة إسرائيل الصهيونية، وتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، وظهور حركة الإخوان المسلمين، ولعب الفاتيكان بمشاعر كاثوليك بولونيا، واللغة الاستفزازية لأجهزة الاعلام المجندة لصالح دعوة الإنجيليين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، وصعود اليمين الأوروبي المتطرف، جميعها ليست ظواهر عفوية حدثت من تلقاء نفسها في سياق التطور الطبيعي للمجتمع الإنساني، بل هي وقائع اختلقتها ووظفتها العلمانية الليبرالية الغربية في معركتها مع العلمانية الشيوعية في الكتلة الشرقية السابقة، يعترف بذلك ولي العهد السعودي بلسانه لصحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية قائلاً: إن انتشار الفكر الوهابي يعود إلى فترة الحرب الباردة عندما طلبت دول حليفة من بلاده استخدام أموالها لمنع تقدم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي، وذلك عن طريق الاستثمار السعودي في المدارس والمساجد حول العالم (صحيفة القدس العربي 28 كانون الأول 2019).
انهارت الكتلة الشرقية فاخترع (هنتنغتون) عدواً يؤمن سطو الولايات المتحدة الأمريكية على دول العالم وشعوبه، هو الإسلام الوهابي الذي انتهت وظيفته السابقة، ولكنه بات يمثل قوة عالمية لا تعترف حتى بعلمانية الغرب، فهذا الإسلام لا يمكنه الاعتراف بالعلمانية لا من حيث هي اشتراكية جماعية ولا من حيث هي حقوق أفراد، لذلك كان عليه أن يقف مرغماً في مواجهة القوة الكبرى التي تضخم برعايتها ويلعب الدور الذي أوكله إليه (هنتنغتون).
إذاً، الحرب على العلمانية في سورية ليست خارج سياق الحرب الثقافية الإمبريالية على المستوى الدولي، التي تهدف لمنع التطور الفعلي لأي مجتمع من العالم الثالث إلا وفق المعايير الشكلية التي تحددها الإمبريالية ذاتها. جورج قرم قال تحت عنوان (إزالة الماركسية وإعادة أسلمة مجتمعات العالم الثالث): (إن انتشار الماركسية في العالم الثالث قد شكل عائقاً أمام توسع حقل الفردية الليبرالية، فجاء رد المعسكر الغربي بتوظيف الدين لاحتواء التأثير الماركسي وشجعت الولايات المتحدة الأمريكية إعادة أسلمة دول المنطقة بالاعتماد على السعودية التي اصبحت ركيزة هذه السياسة، فكانت تفرض نفوذها عبر الرشوة والحملات الإعلامية التي تساوي بين الماركسية والإلحاد، وتقوم بإقصاء أصحاب الفكر العلماني أو تجاهلهم أو قمعهم أو نفيهم أو حتى قتلهم ضمن فضائها الجيوسياسي الذي تقع فيه سورية، التي منع انتصار قواها العلمانية في عملية تحديث المجتمع السوري وخاصة مع ميل هذه القوى بشقيها الشيوعي والقومي الاشتراكي إلى المعسكر الشرقي وانخراطها في حركة التحرر الوطني، فعلى أثر تجريم الحكومة السورية لجماعة الإخوان المسلمين عام 1964 بدأت الجماعة بإثارة الشغب والاضطرابات ونشرها في جميع أنحاء البلاد، قبل أن تتطور إلى عدوان مسلح دامٍ متكرر منذ عام 1973 عندما أعلن عن دستور سوري جديد لم يشترط أن يكون رئيس سورية مسلماً، مما جعل الجماعة تدعوا للجهاد ضد من وصفتهم بأعداء الله.
الحرب على العلمانية لم تقتصر على الجماعة المسلحة، فأخطر الحروب وأكثرها تأثيراً في المجتمع كانت تلك التي خيضت ثقافياً على العلمانية دون حمل السلاح، إذ نشأت جماعة نسوية دينية خلال ستينيات القرن الماضي بدعم من بعض رجال الأعمال ذوي النفوذ في مواجهة الحركات النسوية النهضوية ذات الطابع العلماني، بهدف تحصين الشابات السوريات من تأثير الأفكار التحررية الشيوعية والقومية الاشتراكية وما تركه ذلك من أثر بالغ على مئات الآلاف من أبنائهن وأحفادهن، سمح للجماعة بالعمل العلني عام 2006 وتأسس فريق شبابي من أبنائهن تم ترخيصه عام ،2017 وكانت النتائج الأولية للحرب على العلمانية في سورية قد بدأت تظهر منذ عام 1995 في محاضرات وكتب ومقالات ودراسات فكرية وسياسية رسمية تجامل التيار الديني وتهاجم التيار العلماني الماركسي، كما بدأ تكريس اتجاه ديني في الآداب والفنون تماهياً مع الاتجاه العام للنظام العالمي الجديد. وأسوأ ما في ذلك التماهي أنه تغلف جهلاً أو عمداً بغطاء ممانعة تقوم على التحصّن بالهوية الدينية، فتصبح بذلك أشد أشكال الممانعة عقماً وفشلاً وخدمة للمشروع الخارجي.
لا شك أن مراعاة الخصوصية الدينية للمجتمع السوري ضرورة لا مفر منها، ولكن منطق التطور يقتضي أن تكون المراعاة متبادلة، أي أن لا تصبح هذه الخصوصية نافية أو مهددة أو معيقة لقيم إنسانية علمانية هي ضرورة مقابلة مطلوبة للارتقاء بالحياة الاجتماعية السورية وضامنة لحقوق جميع السوريين بكل أطيافهم، ولكون هذه الضرورة قد نسفها المد الجارف للتيار الديني الوهابي، احتدم الجدل حول العلمانية وأخذ منحىً انفعالياً في الأوساط الشعبية والنخبوية على أثر نشر البيان الختامي لمؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري عام 2018 الذي يقول بنده الرابع إن سورية دولة غير طائفية، في تحايل ركيك ومفتوح على احتمالات متناقضة على كلمة (علمانية).
ليس التيار الديني ضحية للعلمانية كما يظهر نفسه، بل العكس فالعلمانيون وخاصة الماركسيين السوريين هم ضحايا إقصائية التيار الديني، ضحايا حرب ثقافية مفتوحة عليهم منذ قرابة قرن من الزمن، مورست بحقهم فيه كل أشكال العنف، وما تزال هذه الحرب مستمرة رغم عدم انجرارهم الى (صراع الحضارات) وعدم تفردهم في احتكار الحقيقة وعدم تعصبهم للمبادئ كما يشاع عنهم، فتمسكهم بمصلحة البلاد وتطورها وأمنها الاجتماعي هو الهاجس الذي يفرض عليهم السؤال عن مصير سورية وحداثتها وسيادتها، حين يتدخل التيار الديني في السياسة والدولة؟