هل يمكن للحراك الشعبي أن يهزم تحالفات السلطة؟
د. أحمد ديركي:
انفجر الشارع اللبناني منذ ما يقرب شهرين، في وجهة السلطة السياسية – الطائفية في لبنان، مطالباً بأدنى حقوق المواطن من ماء إلى كهرباء إلى عمل إلى طبابة… وصولاً إلى إصلاح سياسي جذري.
مطالب معيشية تشير إلى عمق الصراع الطبقي. مطالب محقة للشعب، أي من واجب الدولة تأمينها، فلا هي (حسنة) ولا (مكرمة) ولا (هبة) ولا… بل حق من حقوق المواطن، وإلا ما من حاجة أصلاً لمفهوم الدولة الحديثة، ووطن ومواطن، ولنبقَ في عصر ما قبل الدولة.
لماذا انتفض مجتمع مقسم طائفياً على سلطة طائفية؟ ليست الإجابة على هذا السؤال بالمسألة السهلة، بل هي صعبة ومعقدة ويطول شرحها لتعقد الإجابة وتداخل السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، وجل ما سوف يُذكر هنا مجرد مقاربة أولية للإجابة.
انتهت الحرب الأهلية في لبنان، بعد أن كانت في بدايتها حرب أهلية في لبنان تحمل مشروعاً وطنياً تغييرياً جذرياً، باتفاق الطائف، وتم تعديل بعض من مواد الدستور مكرساً الانقسامات الطائفية السابقة ومضيفاً مكوناً طائفياً جديداً. فأصبح النظام السياسي – الطائفي يعتمد على 3 ركائز وصلاحيات شبه متساوية للأطراف الثلاثة: رئيس الجمهورية – يمثل المارونية السياسية، رئيس مجلس النواب – يمثل الشيعية السياسية، رئيس مجلس الوزراء – يمثل السنية السياسية، بعد ان كان قائماً على ركيزتين المارونية السياسية والسنية السياسية.
داخلياً تقاسم زعماء الطوائف الثلاثة مراكز الدولة ومؤسساتها ومداخيلها، ولكل منهم (حزبه) و(مقاتليه) في الدولة وخارجها، وان بنسب متفاوتة من القوة العسكرية. ولكل من هذه المرجعيات السياسية – الطائفية مرجعية خارجية تأتمر بأمرتها وتحول النظام السياسي – الطائفي في لبنان إلى 3 دويلات بتحالفات خارجية مختلفة تحت مسمى الدولة اللبنانية. على سبيل المثال لا الحصر بخطاب رسمي متلفز للأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله يقول فيه إن تمويله إيراني وتسليحه إيراني! في المقابل يجاهر سعد الحريري، رئيس مجلس الوزراء، ورئيس تيار المستقبل بتحالفه مع المملكة العربية السعودية! ويجاهر رئيس الجمهورية، ميشال عون، وتياره العوني، بتحالفه مع حزب الله!!
بقي هذا التوازن قائماً منذ تسعينيات القرن المنصرم حتى بدايات عام 2011 نتيجة الأحداث التي عصفت بالعالم العربي.
الحدث الأبرز، في لبنان، بدأت القوى السياسية – الطائفية بالوقوع تحت ضغطين رئيسين مترابطين: 1) على المستوى السياسي كان على كل طرف ان يأخذ مواقف أكثر جذرية من مجريات الأحداث في العالم العربي وفقاً لما يمليه عليه حليفة أو حلفاؤه الخارجيون، 2) على المستوى الاقتصادي دخل الممول أو الممولون الخارجيون لحلفاء السلطة السياسية – الطائفية في لبنان بأزمة اقتصادية. بمعنى آخر لم يعد لأطراف السلطة السياسية – الطائفية مدخول خارجي يكفي لتغطية كامل نفقات (أحزابهم) واستزلاماتهم في الداخل، ومداخيل الدولة ومؤسساتها المتقاسمة بينهم لا تسد كل العجز.
أمر أجبرهم على نوع من التعدي على مداخيل حصص بعضهم البعض السلطوية، في محاولة لكسب المزيد من الأموال لتسديد نفقات الاستزلام.
من خلال هذه السياسة التحاصصية ضُربت كل القطاعات الخدماتية للدولة، ونشأت مافيات محمية لتحل محلها وكل مافيا محمية في جزيرتها الأمنية من قبل الطرف السياسي – الطائفي الحامي لهذه الجزيرة الأمنية. للتوضيح مثلاً مسألة الكهرباء: لكل جزيرة أمنية أصحاب مولدات خاصة تبيع الكهرباء لسكان الجزيرة، وأصحاب المولدات محميون من قبل الدويلة الموجودة في السلطة السياسية – الطائفية والحامية لهذه الجزيرة. فضلاً عن الصفقات الوهمية أو غير المنفذة، وقد تكون مسألة الفيضنات مع بداية كل فصل شتاء دليلاً على مدى (وهمية) الصفقات، واحتكارات الاستيراد الى التعديات على الأملاك البحرية والنهرية العامة… لذا يمكن القول إن كل من في السلطة، بغض النظر عن حجمه التمثيلي فيها، مشارك في حماية (مافياه) وضرب القطاعات الخدماتية العامة ومؤسسات الدولة وحامٍ لمنظومة الفساد.
كانت الأمور تسير بشكل شبه مقبول، عند الشعب اللبناني، على الرغم من كل هذه التجاوزات، للأسباب التالية: تحويلات المغتربين لذويهم لمساعدتهم على تحمل تكاليف العيش المرتفعة في لبنان، مع لحظ ان بيروت مصنفة واحدة من أغلى مدن العالم. والسبب الآخر تدفق ما يُعرف بـ(المال السياسي) لدعم الاستزلام، فاستطاع جزء كبير من الشعب تسديد فاتورتي كهرباء، واحدة رسمية وأخرى لمافيات المولدات، وفاتورتي مياه… وضرائب مرتفعة…
نتيجة ما يحدث في العالم العربي شح (المال السياسي)، وشحت تحويلات المغتربين، مضافاً إليها الأزمة الاقتصادية العالمية.
كما ذُكر سابقاً بدأت أطراف السلطة بمحاولات نهش حصص بعضها البعض في السلطة لتأمين مداخيل تكفي (أحزابها) واستزلاماتها، فتمظهرت بداية في (أزمة النفايات).
غطت النفايات معظم شوارع العاصمة، بيروت، وخارجها، فخرج الناس إلى الشوارع بتظاهرات ضخمة مطالبة (الدولة) بحل الأزمة المفتعلة من قبلها، و(الدولة) لا تستطيع فعل هذا إلا عبر إعادة التحاصص ما بين أطرافها. كبرت الاحتجاجات وحُشرت السلطة بكل أطيافها. تحالفت أطرافها لضرب الحركة الاحتجاجية، ومن ثم إعادة توزيع المحاصصة في ما بينهم. فتمت العملية على الشكل التالي:
هجمت مجموعة من (العناصر غير المنضبطة) لتنظيم سياسي بتغطية من (القوى الأمنية) وافتعلت أعمال شغب وكسرت الأملاك العامة… مع لحظ ان التنظيم السياسي الذي افتعل أعمال الشغب سياسياً في الظاهر ضد سياسة من أعطى الأوامر للقوى الأمنية لتغطية (العناصر غير المنضبطة)!
تشرذمت الاحتجاجات نتيجة أعمال الشغب التي افتعلتها (العناصر غير المنضبطة) والتغطية الأمنية لها. هدأت الأمور إلى ان عاود الشارع إلى الانفجار مجدداً منذ ما يقرب الشهرين.
أسباب الانفجار هي هي السابقة مع زيادة الضغوط السياسية والمالية، وكانت ضريبة وزير الاتصالات، المحسوب على (تيار المستقبل)، على خدمة الـواتس اب هي الشرارة التي اعادت انفجار الشارع، مع لحظ ان كل الوزراء الممثلين لكل أطياف النظام السياسي – الطائفي وافقوا عليها. ولكن مع انفجار الشارع الجميع (لبس الكفوف البيض)!
اعتصم بضعة شبان وشابات محتجين على اقرار الضريبة على الـواتس اب، وسرعان ما انضم إليهم كل متأثر من الوضع المعيشي في لبنان ومتضرر من السياسات المتبعة منذ تسعينيات القرن المنصرم. كبرت كرة الثلج إلى ان عمت جميع مناطق لبنان، مدينة صور معقل رئيس مجلس النواب ورئيس (حركة أمل)، بعلبك معقل حزب الله، طرابلس وصيدا معقل رئيس مجلس الوزراء ورئيس (تيار المستقبل)، جل الديب والذوق… وغيرها من المناطق الموجود فيها نفوذ لرئيس الجمهورية و(التيار العوني)… ومن دون أي تنسيق بين المتظاهرين والمحتجين كانت الشعارات متشابهة، لأن الهموم واحدة فارتعدت مجدداً أركان السلطة السياسية – الطائفية بكل أطيافها. تخطت خلافاتها واتحدت مجدداً لضرب الحراك الشعبي فعاودت تطبيق الخطة القديمة، (عناصر غير منضبطة) في بيروت، تهاجم المتظاهرين وتحرق خيمهم وتكسر الاملاك العامة وتنتهب ما تنهب، والقوى الأمنية بقيادة وزيرة الداخلية، المتناقضة سياسياً مع (العناصر غير المنضبطة)، تحمي (العناصر غير المنضبطة)! وفي بقية المناطق مثل صور والنبطية تعمل (العناصر غير المنضبطة) بشكل علني بهويتها السياسية. فشلت الخطة في بيروت في المرة الأولى وعاود تطبيقها مرة أخرى وبشكل شبه علني بلا أقنعة (عناصر غير منضبطة) تهاجم المتظاهرين بشكل منظم ويحرقون خيمهم والقوى الامنية لا تصدهم مع لحظ أن القوى الأمنية لم تلق القبض على عنصر واحد من (العناصر غير المنضبطة) بينما تستخدم أقصى درجات العنف والاعتقال بحق المتظاهرين السلميين! لم ينسحب المتظاهرون من الشوارع. زاد ارتباك السلطة السياسية – الطائفية، ومن دلائل إرباكها أن الأمين العام لحزب الله يلقي 4 خطب متناقضة في شهر واحد، ويتهم الحراك الشعبي (بتمويل سفارات) ويطمئن عناصره بأن رواتبهم لن تتأثر رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة! يستقيل رئيس مجلس الوزراء معلناً شروطه لتشكيل حكومة جديدة، ورئيس الجمهورية لا يتبع الأصول الدستورية لتشكيل الحكومة ويلقي أكثر من كلمة من دون إعطاء أي حلول.
كل ما يجري اليوم من مناورات سياسية هو مجرد لعب في الوقت الضائع، لحين ان يحسم الأطراف الخارجيون امرهم بشأن شكل تشكيل الحكومة في لبنان لينفذ حلفائهم الداخليون العمل على الشكل المطلوب. إلا ان شروط اللعبة لم تعد محصورة بين طرفي السلطة حيث كل طرف ينتمي لحلفاء خارجيين مختلفين على شكل الحكومة، وأصبح الحراك الشعبي لاعباً أساسياً في عملية التشكيل.
لا يعني هذا ان الحراك الشعبي قد وصل إلى مرحلة الوعي ليضع وجهة نظرة ولو بخطوطها العريضة لمشروع بديل لما هو قائم، ولكنه في مرحلة تشكيلها ويظهر في مطالبه الأساسية بتشكيل حكومة انتقالية من خارج السلطة السياسية وأزلامها بصلاحيات استثنائية تعمل على وضع قانون انتخابات جديد، لتتم من بعدها انتخابات رئاسية مبكرة وتشكيل محكمة لمحاسبة سارقي الأموال العامة، سواء كانوا في السلطة او في الإدارات العامة. هل تستطيع السلطة السياسية أن تلتف عليه وتمتص غضب الشارع؟ أم ستفشل أمام غضب الحراك؟ مع لحظ أن السلطة لم تستخدم كل أوراقها لضرب الحراك، فهي ما زالت تملك الكثير من الأوراق، وأولها العامل الطائفي، متى ستسخدم ورقة (شارع ضد شارع)، أو أي ورقة أخرى؟ هل سترسل أحزاب السلطة (عناصرها غير المنضبطة) لتصبح جزءاً من الحراك وتشوه صورته؟
كلها أسئلة ستجيب عنها الأيام المقبلة، كما ستجيب عن شكل الاتفاقيات التي سيقوم بها الحلفاء الخارجيون لتنعكس هذه الاتفاقيات أو الاختلافات في شكل الحكومة التي سوف تُشكل، لتظهر وكأنها تمت بعملية (استشارات فتكليف)!