التجانس أساس اكتمال الأسرة

سامر منصور: 

في ظروف الحرب تفقد العديد من الأُسر أحد أركانها بشكل جزئي أو كلي، وأكثر ما تفقده الأب، خاصة أن هناك كثيراً من الشهداء والمهاجرين والمفقودين والمعتقلين، وبسبب الغلاء والضغوط الاجتماعية والاضطرابات النفسية التي تنتشر في الحروب هناك كثير ممّن تخلى عن أسرته طلاقاً أو هجراً، فهل الأسرة المكتملة (أم، أب، أبناء) أكثر سعادة من الأسرة التي تفتقد أحد هذه الأركان؟

في أيّة وحدة اجتماعية مهما كانت صغيرة أو كبيرة، المسائل لا تُقاس بالكم، بل بإخلاص الفرد وعمق انتمائه إلى هذه الوحدة، ويتقدّم هذا حتى على المنحى التكاملي في هذه الوحدة، لأن من لا يشعر بالانتماء ويُقدّم الأخذ على العطاء بمراحل تجاه وحدته الاجتماعية، يشكل عنصراً غير متجانس، وقد يتسبّب بالأذى والضرر لكل شركائه في هذه الوحدة، فكم من أب أو أم باعوا أطفالهم أو ألقوا بهم على أبواب الغرباء وهجروهم، وكم من أب أدخل زوجته وبناته في مهنة الدعارة، وكم من أب ضرب أولاده بوحشية حتى انتحر أحدهم أو جُنَّ أو أُصيب بإعاقة دائمة. إن المقياس باعتقادي هو السواء النفسي ووجود التجانس من عدمه بين مكوّنات الأسرة. وقد رأينا في سورية على سبيل المثال أُسراً كثيرة تعيش بسعادة بفضل جهود الأم الجبّارة خاصة أن عدداً كبيراً من الرجال غائبين بسبب الجندية.

أمّا في الأحوال الطبيعية وفي المجتمعات الأكثر سواء نفسياً، فالأسرة المتكاملة برأيي هي الأفضل، فرغم رواج ظاهرة (السنكل ماذر) أو الأسرة التي تتكوّن من أم وأبناء فقط في العديد من الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ أن الضغوط التي تعيشها الأم في هذه الحالة قد تُهدد سواءها النفسي. وفي دولة كفرنسا تُقدَّس فيها الحريات على نحو قد لا نفهمه كعرب، خرجت أكبر مظاهرات لم يشهدها تاريخ باريس منذ نصف قرن، خرجت هذه المظاهرات لتُندّد بسن قانون يسمح للأزواج المثليين بالتبني، وبرغم أن القوانين تُقرّ للمثليين بالحق في إقامة أسرة لها كل الامتيازات التي تتمتّع بها الأسرة العادية بعد أن شُطب المثليون من قائمة الأمراض النفسية في جميع دول الغرب، فهذه القوانين لم تُحرك الشارع الفرنسي ولم يكترث لها، لكن عندما منحوا حق التبني للمثليين ثار الباريسيون في وجه هذا القرار لأنه باعتقادهم يؤثّر على سيكولوجيا الطفل وحريته في اختيار توجهات الجنسية ضمن بيئة سوية ويجعله ذي قابلية كبيرة للشذوذ الجنسي كونه يرى قدوته في الحياة (الوالدين بالتبني) يخوضان في هذا.

ومع الأسف نحن في سورية ضُربت الأُسر في منظومتها القيمية، فقد نشأ وترعرع الأطفال في المناطق التي اجتاحها المتطرفون والمتشدّدون في أسر خائفة مضطربة تفرض عليهم ذهنيات وأنماط سلوك معينة لاتقاء شرّ غيلان الذبح والإرهاب، إضافة إلى المشاهد المرعبة التي شهدوها حيث الأرض مزروعة بذوي اللّحى الطويلة والسواطير والأصوات مُدجّجة باللهجة الزاجرة والآمرة وبعبارات حازمة تلي كلمتي افعل ولا تفعل، حرام وحلال، يجوز ولا يجوز، حتى السماء ماطرة بأصوات الطائرات وبالنار والموت. إنهم أطفال آباؤهم الفقر واليُتم وأمهاتهم الجوع والخوف والذعر حتى لو كانت أُسرهم كاملة، فهذا لم يُغنِهم عن شيء من أهوال العيش الضنك. أمّا في المناطق التي لم تصل إليها أرجاس الإرهابيين والتي بقيت تحت سيطرة الدولة السورية فأيضاً انعكست ومازالت الضغوط المعيشية من غلاء ومن مشاهد لأرتال الشهداء ومن قصف بالهاون وقنص وسواه من جهة العصابات الإرهابية على الأسرة ككل وجرى تفريغ كل الضغوط في الحلقة الأضعف كعنف لفظي وجسدي ضدّ الطفل في كثير من الحالات. ويبقى الحديث عن الوطنية والانتماء الوطني الذي تصطخب به وسائل الإعلام مجرد جعجعة وهراء ما دام الطفل الذي ترك مدرسته ليُعين أباه الذي يسمعه يشتم ويلعن الدولة وهو يجتاز حاجزاً ما أجبره على دفع أتاوة لمُتسلّط فاسد، أو وهو يهرول حاملاً بسطته الصغيرة هرباً من رجال الشرطة الذين يطاردون أصحاب البسطات، هذا عدى عن سماعه شتم جميع من حوله للدولة كونها مسؤولة في نظر العوام الذين لا يتمتعون ببُعد النظر عن انقطاع الكهرباء والمحروقات وعدم ضبط الأسعار، الخ. وأنا أكتب هذا الكلام للفت الانتباه إلى مفهوم الدولة والسلطة في سيكولوجيا الناشئة والأجيال الصاعدة خاصة أن التكنولوجيا والفضائيات والسوشل ميديا أفضت إلى تفعيل آليات عمل العقل من مقاربة ومقارنة وتفاضل وتكامل واستدلال، الخ، ولم يعد المواطن كياناً بليداً ينفع معه تكرار واجترار شعارات مُبالغ فيها وعبارات رنانة جوفاء. إن هذا الطفل ينشأ في أسرة تُصرّح بكرهها ومقتها ونفورها وتُحمّل بحق أحياناً، وبغير حق أحياناً أخرى، السلطة مسؤولية كل ما يُنغّص عيشها. وبنظري أبٌ ميّت خيرٌ من أبٍ حيّ لكنه مُتطرّف إرهابي يذبح الناس ويُعلّم أبناءه أن ذلك بطولة ومجداً ويرضي الله، كما أن أباً ميّتاً خيرٌ من أبٍ يُدخِل شاشات التلفزة المُسطّحة والكثير من قطع الأثاث إلى منزله بشكل شبه يومي ويستخدم سلاحه لإخراس الناس وسلبهم عوضاً عن نُصرة الشرفاء المدافعين عن الوطن، وحين يسأله أبناؤه عن مصدر كسبه السريع والسهل يُباهي بالسرقة والتعفيش واستغلال السلاح والسلطة الممنوحة له، ويعطي أولاده قدوة طالحة في نكب المنكوب ونهب المنهوب. أستغرب قلّة الوطنيين الشرفاء الذين يتطرقون إلى مسائل متصلة بالمنظومة القيمية التي انهارت أو تشوّهت لدى العديد من الأسر السورية وكيف أصبح الفقر مُقترناً بالوطنية الحقيقية والشرف والوفاء، بينما الثراء السريع مُقترناً بالخيانة والعمالة والإرهاب من جهة، وبالتشبيح والمافيوية والتسلّط والتعفيش من جهة أخرى. لكن يبقى خيار مُدّعي الوطنية من جهة والجبناء من جهة أخرى، السكوت عن إخفاء أوساخنا وأزماتنا المحلية خلف ستار المؤامرة التي حجبت عنّا نور السلام، عوضاً عن السعي للتخلّص من كليهما!

العدد 1102 - 03/4/2024