لا مكان للصحة النفسية في مجتمع يسوده الاستغلال
سامر منصور:
لا تُحترم الحالة النفسية للمواطن في الدول العربية، فقد اجترّت وكرّرت أحزابها لأجيال وأجيال شعارات مفادها (التعبئة القومية، الروح العقائدية) ومفردات مثل (شعبنا المناضل، شعبنا الباسل… الخ) مُستندة إلى تراث من بطولات الشعوب العربية في مواجهة قوى الاستعمار في الجزائر ومصر وليبيا… الخ، وأنه مادامت الروح المعنوية بخير فلا يهم تفوّق العدو بالمعدات العسكرية، وما دامت الروح المعنوية بخير فالوطن بخير!
وظلّ هذا الخطاب وتلك الذهنية سائدة مُهملة التسارع المرعب في تطور التقنيات والتكنولوجيا العسكرية لدى الدول الاستعمارية، إضافة إلى تطور طرائق النفاذ الإيديولوجي إلى الوعي الجمعي. ورأينا كيف غلبت الخطابات العاطفية لدى طرح برامج العمل وخطط إدارة الأزمات على البرلمانات والجماهير العربية!
علمياً جميع المفردات الرنانة من (بسالة، إباء، شجاعة، إقدام..الخ) مردّها إلى القوة النفسية، والقوة النفسية هي التي تُتيح صبراً وكفاحاً في سبيل تحقيق أفكار أو منظومة فكرية وجعلها جزءاً من الواقع الاجتماعي. ولكن تختلف القوة النفسية عن قوة المواجهة التي تنبع من غريزة البقاء، فالثانية مردّها الخوف من بطش المستعمر وأذاه المُتصاعد والرغبة بالتخلّص من القلق وانعدام الاحساس بالأمن والاستقرار في ظلّ وجوده، إذ تتّسم ممارسات جنود الاحتلال باللاإنسانية والجشع والبذاءة، وكذلك حال رجال الحكومات المحلية التابعة لهم. بينما ما مردّه إلى القوة النفسية فهو يحمل طابع الديمومة أكثر وليس حالة (رد فعل). كما يتمتّع صاحب القوة النفسية بالتزامات فكرية وعقائدية قابلة للتطوير والتنمية، ويريد تغيير الواقع ضمن رؤية أكثر تكاملاً ووضوحاً من ذلك الذي يتصرف بدافع الخوف وغريزة البقاء في مواجهة الوحش الاستعماري.
إن المنحى النفسي للمواطن مُهمل لدى الأنظمة العربية، فالمكاتب الحزبية والأمنية المعنية بالتوجيه السياسي والمعنوي مهمتها ضخ كل ما من شأنه رفع الحالة المعنوية، وهذا الضخ الشعاراتي لا يتناسب مع الارتقاء بالعوامل الموضوعية المرتبطة بالتحسين التشريعي والاقتصادي والإداري.. الخ الذي من شأنه الارتقاء بالواقع المعيشي، أو بقوة الدولة، وكأني بالأنظمة العربية تتبع مبدأ (كرر وكرر كلامك حتى يصدقونه) إن التّسارع في الهوة التشريعية والاقتصادية والإدارية.. الخ بين الشعوب وحده كفيل بضرب الروح المعنوية، ففي عصر الفضائيات واليوتيوب وو..الخ سيقوم العقل بالمقاربة والمقارنة كونها من آليات عمله ويرى أن الجميع سبقه. فيكفي أن يرى العربي السوري أو المصري كيف سبقت الجامعات والأكاديمياتفي دول الخليج جامعات وأكاديميات بلاده في التصنيفات العالمية بمراحل ومراحل، رغم أنهم كانوا يقطنون في الخيام ولم يعرفوا المدنية بشكل موّسع إلاّ مؤخراً، ورغم ذلك مدنهم متطورة بشكل هائل من حيث البنية التحتية وسواها. ويكفي أن يرى العرب عموماً أحوال الجاليات العربية التي تزداد عدداً في الدول المتقدمة حتى تنتكس معنوياتهم، خاصة الفارق في مجال حقوق المرأة بين دول الخليج ودول الغرب مثلاً. إن الأنظمة العربية التي معظمها حالة علقية مُستكبِرة على شعوبها ترى الحالة المعنوية صمام أمان وتتعامل معها بسطحية عرّتها الأحداث والحروب التي عصفت بالمنطقة العربية. إن هذه الأنظمة لا تهتم بالقوة النفسية والاستقرار النفسي للمواطن الذي مبعثه شعوره بالاستقرار المادي والكرامة واحترام حقوقه الدستورية وتكافؤ الفرص.. الخ، بل هي تسعى لرفع الروح المعنوية عبر نشر الوعي الزائف واللاعب على الحبال، وتحويل الهزائم إلى انتصارات وبث الآمال الكاذبة وجعل المواطن يعيش على الأحلام والطموحات المؤجلة وو..الخ، كما يوضح الكثير من الكُتّاب والمفكرين العرب ومنهم نزار قباني الذي عبّر عن ذلك شعراً على سبيل المثال.
إن الضغوط النفسية على ربّ الأسرة، التي يفرضها مجتمع فشلت قياداته في الارتقاء به فوجد الإرهاب فيه بيئات حاضنة، ووجد اللصوص الصغار وبعض المسؤولين الكبار الفاسدين مرتعاً لجشعهم حدّ الوصول إلى الجريمة المُنظّمة والفساد المُنظّم الشبكي الهرمي، إضافة إلى عدم اقصاء العناصر المسيئة والمتسلّطين من قبل القيادات العربية التي تنتهج منهج الولاء والاستزلام لمسألتي القبول وتسلّم المناصب في مؤسسات حكومية لا تراعي المناحي الأخلاقية والإنسانية والمهنية في التعامل مع المواطن، ولا تمتلك معايير صارمة وقوانين نافذة تمنع عناصرها وإدارييها من تحويل السلطة إلى تسلّط، كل هذا مُضافاً إليه الحالات المُشينة من الكسب السهل ومطالبة المواطن من جهة أخرى بتقديم الطاعة والتضحيات على مدى عمره دفاعاً عن (الوطن) الذي خرّبت فيه الطبقة المُتنفّذة معادلة الأخذ والعطاء وثنائية الحقوق والواجبات، فأضحى الوطن هو(مفهوم) لسرج يوضع على ظهورنا كي يركبونا ويصلوا هم إلى ما يريدون.. كل هذا يُتعِبْ نفسية المواطن، إضافة إلى الفقر الأخلاقي المُتنامي كنتيجة لتنامي الفقر المالي.. ويجعله يفقد الأمل، وتُعبّر مواقع التواصل الاجتماعي عن الإرهاق والقلق والغضب الذي يعتري المواطنين العرب، فهم يُعبّرون فيها بطرائق مُبدعة أحياناً عن الضغط النفسي الذي يرزحون تحته. ولم تُقدّم الحكومات العربية أيّة برامج لإعادة التأهيل النفسي للمقاتلين ولمُعاقي الحروب الذين شهدوا أو كانوا ضحية الغول الداعشي، ولا نسمع عن مراكز خاصة بالصحة النفسية للأطفال الذين تعلموا المشي والكلام بين الأنقاض والجثث، وكانت أولى وجبات طعامهم من الحاويات. حتى الإعلام الحكومي مُنشغل بتلميع قياداته وتحويل خيباتها وهزائمها إلى انتصارات وإنجازات عوضاً عن بثّ بعض البرامج التوعوية للأهالي لتدارك ما يمكن تداركه ممّا أَلَمَّ بالمنحى النفسي للطفل.
باختصار هناك الكثير الكثير للقيام به مؤسساتياً في حال قررت الأنظمة العربية أن ترى شعوبها خارج نطاق القطعان التي تُحلب وتُجز وتُذبح عند الضرورة، وقررت أن تُطبّق عليهم أحدث المعارف في الفضاءات السيكولوجية والسوسيولوجية.