حياتنا لا يمكن أن تكون سوى نزهة جميلة بعد معركة داخلنا!!
سامر منصور:
هل حياتنا نزهة أم معركة؟ تنبؤاً مني بما سيكتبه زملائي في هذا الباب وتجنباً للتكرار، لن أتحدث عن الأفراد أو عن مجتمعنا، بل عن المجتمعات عموماً في معرض الإجابة عن هذا السؤال وإيماناً مني أنه لا يهمُّ إن تمكّن أفراد من الوثب عالياً ما داموا على سطح سفينة تغرق. إن النجاة والخلاص والسعادة بصيغها الأكثر استدامة لا يمكن إلاّ أن تأتي عبر حلول جمعية. سبق أن كتبتُ في أحد أبحاثي في مجال الإنثروبولوجي (ان الكائن البشري يملك من بين جميع الكائنات الخيار بين حياة غريزية ومحايثة عقلية وبين حياة عقلية ومحايثة غريزية. أي يملك أن يُبقي عقله في نطاق العمل لتلبية وتطوير مظاهر إشباع الغريزة سواء غرائز مثل الجوع الشهوة الجنسية أو غرائز كالمكانة الاجتماعية، حب الشهرة … الخ. ويملك الكائن البشري أن يتطوّر إلى كائن آخر أعلى ألا وهو الإنسان إن وصل عتبة معينة من الوعي بحيث يعمل عقله خارج إطار خادم للغرائز، يعمل عقله كسيد، فيتحرر الكائن البشري من كتلته الفردية وحدوده الزمكانية ليُصبح عيناً رائية وبصيرة نافذة وكائناً أعلى، ليُصبح جيناً في شيفرة الجينات التي تطور الجنس البشري، وهذا يتطلّب ولادة ثانية سوى الولادة التي تعرفها سائر الثديّات وهي ولادة عقلية). فالعقل إن لم يحصل على غذاء ويتمّ تفعيل ملكاته من تحليل وتركيب واستقراء واستدلال واستنباط وتفاضل وتكامل بشكل موضوعي إزاء الحياة والموجودات الأخرى فسيضمُر، أو يتورّم باتجاه (الأنا). فكما أن من يمارس رياضة كمال الأجسام تنمو عضلاته لتعينه في شؤون حياته، كذلك من يُغذي عقله. إلاّ أن العقل هو السمة المُميّزة لنا عن بقية الكائنات، وأيُّ مهارات وتواصل غايتها ذاتية بحتة ولا موضوعية، لا يُخرجنا عن نطاق الحياة الطبيعية الحيوانية حتى لو دخلت فيه وسائل تكنولوجية، فالقرد يستطيع أن يستخدم العديد من أدوات الكائن البشري، لكنه لا يستطيع أن ينتجها، والكائن البشري يستطيع أن يستخدم العديد من أدوات الإنسان ولكن لا يستطيع أن ينتجها (كالتكنولوجيا مثلاً) ويكون استخدام القرد عبثياً أكثر منه ذا معنى لأدوات الكائن البشري، وكذلك استخدام الكائن البشري لأدوات الإنسان. فلا يعني الكائن البشري من كل وسائل ومهارات التواصل سوى الوصول إلى علاقة جنسية بالأنثى وكسب مال كي يتزيّن لها بملبسه ومركبه ومأكله … الخ، كما تنفش الطواويس والطيور ريشها في مواسم التزاوج، وغايته هنا تسخير المُنتج العقلي لحالة لا عقلية غريزية يشترك فيها حتى مع الذباب. فإن اقتصر إعمال العقل على هذا المنحى أضحى عرضة للأدلجة والصراعات الصغرى تلك التي تشبه صراعات وحوش الغابة التي تُمارس الحياة الاجتماعية من ذئاب وسباع … الخ على مناطق الصيد (الغذاء) عوضاً عن خوص صراعات كبرى (كصراع الإنسان مع المرض) والسعي لإيجاد أدوية لإنهاء الأمراض وسواها ممّا يهدد الجنس البشري كصراع الانسان مع مسألة الشيخوخة، وعجزه عن التنقّل بسرعة والطيران وسواها، ممّا أفرز منتجات تُتيح للإنسان الطيران والغوص لأعماق كبيرة وربما تأخير الشيخوخة في مآتي الزمان ومسائل أخرى تبدو اليوم مستحيلة.
وبما أن الفنّ مرآة الشعوب، نجد كماً هائلاً من أفلام الخيال العلمي ومسلسلاته حتى تلك المُخصّصة للأطفال لدى الشعوب التي ترتفع فيها نسبة وجود (الإنسان) وهي تفترض صراعات وأزمات كبرى، وتطرح فرضيات ونظريات لحلّها، وسيناريوهات لمستقبل البشرية، إلى جانب المسلسلات العادية. بينما نجد أكثر المسلسلات شهرة لدينا نحن العرب: (الهيبة، باب الحارة) ومشاكلها وصراعاتها (كيف تخرج زوجة المعلم عمر من البيت دون إذن زوجها وهل سيكسر عظامها أم يُطلّقها أم ماذا؟) ومهازل أخرى مشابهة تتعلّق بتفاصيل تترفع عن ممارستها حتى الكائنات غير العاقلة في الحياة الطبيعية.
ولنجيب على سؤالنا الذي بدأنا به المقال: هل الحياة نزهة أم معركة؟ الولادة تحتاج الى حمل ومخاض وهذا ليس سهلاً، فإن أحجمت الدودة عن التحوّل إلى فراشة واختارت أن تبقى دودة فسيكون صراعها مع التخمة (كائن استهلاكي متلاف) وصراع مع دودة أكبر وأكثر شرهاً تحاول ابتلاعها أو الاستيلاء على غذائها (القوى الاستعمارية). أما إن اختارت أن تتحوّل إلى فراشة فستكون أسرع وأجمل، وستجد فضاءً واسعاً للحركة وتُسابق نحو الضوء، وحتى إن دخلت صراعاً قاسياً ستكتسب منه خبرة (مورثات معرفية) تُحصّن سلالتها من الوقوع فيه، وهذا كفيل بتجاوز كل أشكال الصراع إلى حياة أشبه بنزهة معرفية جمالية لا تخلو من المغامرات الحميدة. أمّا الأنظمة التي تجتر الشعارات وتستغبي وتُجهّل شعوبها كسبيل وحيد لضمان استمرارها كونها حالة متأخرة عن زماننا، وتتراوح بين ملكيات علنية وملكيات مُقنّعة، وانكفاءها عن الاستثمار في الإنسان، وطمسها لحقائق وتأويلها لمنعكسات الأحداث بما يتناسب مع مصالح متنفذيها، كل هذا سيقود إلى صراعات دائرية لا تنتهي ومجتمعات يسودها العُصاب والبارانويا والاكتئاب، يعاني نسيجها من التناقضات بحيث لا ينتهي التفريغ باستخدام العنف والوسائل الهمجية إلاّ حين يُنهك ويُستنزف المجتمع، ثم يبدأ المتراكم السلبي شعورياً ونفسياً وصولاً الى الصراع الدموي مُجدداً.