عوالم | ما خلف السور

عباس حيروقة:

لم يخطئ ألبرت أينشتاين حين دعا غير مرة إلى تأمل الطبيعة وفهمها، حين قال: انظر بعمق إلى الطبيعة وبعد ذلك سوف تفهم كل شيء أفضل.

درجت منذ سنوات على ممارسة طقس جد هام في حياتي اليومية ألا وهو التأمل،

الذي اعتبره أرسطو في (فلسفة الأخلاق) أنه أعلى صورة للنشاط العقلي.

ففي كلّ يوم، وقت المغرب لابدّ لي من ممارسة هذا الطقس المهيب، لدرجة أصبح من مفرداتي اليومية، وكما قلنا في غير موضع إن تأمل مفردات الله المسطورة في آفاقه لا تقل أهمية عن تأمل مفرداته المسطورة في كتبه، فتأمل شروق الشمس وحبوها نحونا، والإصغاء لهذا السكون الكوني المهيب في ثواني الغلس الأولى، الإصغاء لصوت الريح وما تتركه بين غابات السنديان، التفكر في ظاهرة البرق، الرعد، المطر، كل هذا لا يقل أهمية وإغناء للروح والقلب والعقل عن قراءة مجلدات لرموز الفكر والأدب والدين.كل هذا وذاك جعلني أفهم الحياة وأعيشها بطريقة مختلفة مغايرة.

أعود لما درجت عليه من تأمل فأقول: تأخذني دائما شجرات الدار (دالية العنب – شجرة التين – الرمان – اللوز والدراق وقت الزهر …الخ.

وفي كثير من الأحيان كنت أعجب لا بل أدهش وأنا انثر حبة قمح مثلاً، أو بذرة أي نوع من المزروعات. كنت أراقبها بعد أيام كيف تنبت، تنمو وتنمو، تزهر، تثمر، تصفر أوراقها، وتيبس، تيبس، تيبس. يا الله كم نشبهها تماماً! ولكن، لكن أكثر الناس لا يتفكرون. وكان يخيفني ويرعبني لا بل يرجف قلبي حين تسّاقط ورقة من شجر وقت خريف، فأحسب روحي تيبس، تسقط، يغشى عليّ.

أما في هذه الأيام فيروق لي وبكل الأوقات لاسيما ساعات الصباح الأولى ووقت المغرب أن أقف قبالة شجرة الزيتون الكبيرة في أرض الدار، أتأملها فتشفُّ روحي، أمرّرُ أناملي بكل قداسة على حبّاتها، أوراقها، فتسري في جسدي قشعريرة، رجفة حنونة أخّاذة، ارتعش واحسب أنني قبالة وليّ أو نبيٍّ من أنبياء الله.

شجرة زيتون طافحة بالنور، بالشعر، بأسماء الله الحسنى، أتأملها، تسبقني أناملي تجاهها، أمشطها كعاشق كلف بضفيرة من يُحب، ترتجف أناملي كراهب في معبد عتيق ألف تأمل وجه يسوعه المصلوب، فيمسح كل مساء أقدامه بالزيت والريحان ويبكي غبطة.

أتأملها، أتحسس جذعها فأرحل إلى كواكب من نور، إلى عوالم ما خلف السور،

بعد كل هذا وذاك، كيف لي ألّا أتأمل شجرة الزيتون دون أن ترفل روحي بالنور ابتهاجاً واعتزازاً وقدسية!

كيف وكيف فالتاريخ بأزمنته أنبأنا بأن كل الرسل والأنبياء والقديسين والمفكرين والمصلحين والصوفيين والشعراء وغيرهم من المبدعين، وقبل أن يتنزّل عليهم الوحي الربّاني، عاشوا حالات تأمل وعزلة في كنه ذواتهم، قلوبهم، أرواحهم فتشفُّ وترقُّ.‏‏

(شفَّ الزجاجُ وراقت الخمرُ.. فتشابها وتشاكلَ الأمرُ).‏‏

فينتجون نصوصاً من فيوضات الإله، ويؤسسون نظماً مجتمعية وسيراً ذاتية هائلةً وديانات وعقائد وإيديولوجيات.

مرّوا ومازالوا يمرّون بمراحل تأمل الموجودات، الخلق، الموت، البراري، وتلك الأمداء والأنداء، هول الجسد، والإصغاء الحنون لوجيب القلب وللروح، فيأتي صوت حنون وشفيف: انظر.. تأمل.. تفكّر.. أن ما تفور به شجرة الزيتون من نور هي ما فارت وتفور به روحك وقلبك، قم واصغِ لسقسقة ماء قلبك وافرح، ابتهج!‏‏

العدد 1102 - 03/4/2024