التنمية المستقلة لضمان الغد السوري

بشار المنيّر:

يتطلع السوريون إلى نجاح المساعي الدولية والحوار السوري الوطني الشامل، لحل الأزمة السورية عبر الطرق السياسية، وذلك بعد تقدم جيشهم الوطني في مكافحته للإرهاب، واستعادته لمعظم الأرض السورية، والعمل بعد ذلك على تنفيذ استحقاقات أخرى لا تقل أهمية.. وخطورة عن مواجهة الإرهابيين، والحفاظ على وحدة بلادهم وسيادتها، ويأتي على رأس هذه الاستحقاقات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة، بالاعتماد على الذات، ومساعدة الحلفاء والأصدقاء، التي تتضمن حسب ما ندعو إليه، مهمة إعادة الإعمار.

عندما نؤكد ضرورة الاعتماد على الذات، فنحن نهدف إلى ضمان غد سورية، وعدم المغامرة بِرهن اقتصادنا الوطني لشروط..0 وبرامج.. وقروض.. وإملاءات تنال من قرارنا السيادي أولاً، وتلبية متطلبات التوازن بين شقَّي التنمية: الاقتصادي، والاجتماعي ثانياً، فما من دولة احتُلت أراضيها، وتعرضت للغزو الإرهابي وتتعرض لضغوط سياسية واقتصادية، تفرّط بمفاتيح اقتصادها، وتنمية مجتمعاتها المحلية.

 

أولاً- ركائز التنمية المستقلة المعتمدة على الذات

تستند التنمية المستقلة المعتمدة على الذات إلى ركائز متعددة، أبرزها:

1 – التركيز على القدرات والطاقات والموارد الوطنية، ما يستدعي ضرورة تنميتها وسلامة تخصيصها واستخدامها. ويشار هنا بوجه خاص إلى الموارد البشرية التي تحتل مكانة هامة في العملية التنموية.
2- دور أساسي للدولة والتخطيط، لتحقيق المهام التي سبق الحديث عنها.

3- إن الشرط الأساسي لنجاح عملية التنمية المستقلة المعتمدة على الذات وهو في المشاركة الشعبية الواسعة في اتخاذ القرارات وتنفيذها،وكذلك في تحقيق التوزيع العادل للثروة والدخل.

4 – ضبط العلاقة مع الخارج، ويؤكد هذا الشرط التنموي ضرورة إقامة العلاقات الاقتصادية مع العالم الخارجي انطلاقاً من المصالح الوطنية، والتدرج في فتح الأسواق بالتوازن مع التقدم الحاصل في بناء القدرات الذاتية في مجال الإنتاج والتقدم العلمي وخلق المزايا التنافسية للمنتجات الوطنية.
5 – التعاون مع البلدان النامية الكبرى، والبلدان العربية وبلدان الجنوب. إن هذا التعاون من شأنه تذليل الكثير من الصعاب وتجاوز العديد من المعوقات التي تبدو في المواجهة ما بين الدول الصناعية الغنية والدول النامية الفقيرة، إذ لا يظل أمام هذه الدول الفقيرة سوى ضم جهودها والتعاون فيما بينها لمواجهة التحديات المشتركة التي تعززها العلاقات غير العادلة للنظام الاقتصادي العالمي.(1)

ثانياً – العوامل المساعدة لتحقيق التنمية المعتمدة على الذات

أ- تنوع القطاعات الاقتصادية

لا تعتمد بلادنا على قطاع اقتصادي مهيمن على مجمل العملية الاقتصادية، بل تتنوع الأنشطة الاقتصادية، وتسهم بنسب متفاوتة في الناتج المحلي الإجمالي، لكن ضرورات التنمية الشاملة تتطلب التركيز على قطاعات قائدة.. قاطرة لبقية القطاعات الأخرى من جانب، وتجنيب البلاد ارتهانها لتأثيرات خارجية، سواء كان مصدرها المصارف العالمية، أو الدول الكبرى والمؤسسات المالية والاقتصادية الدائرة في فلكها من جانب آخر.

1 – قطاع الصناعة

تؤكد تجارب البلدان الرأسمالية والنامية الكبرى، أن قطاع الصناعة كان العامل الحاسم في تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وازدياد تأثيرها في الاقتصاد العالمي، لذلك بات من الضروري لأي بلد يسعى إلى إحداث تنمية شاملة ويمتلك مقومات النهضة الصناعية، أن يعتمد في تحقيق هدفه على القطاع الصناعي بالدرجة الأولى، فهو المحرك الأساسي لنشاطات اقتصادية أخرى كالتجارة والتسويق والتصدير، والمشغل الأبرز للقوة البشرية الباحثة عن فرص العمل، والميدان الرئيسي للقيمة المضافة التي تعد المكون الأساسي للناتج المحلي الإجمالي، مع الاهتمام ببقية القطاعات الاقتصادية الأخرى  كالزراعة والسياحة والتجارة والنقل والإنشاءات.

تسهم الصناعة التحويلية السورية منذ عام 2000، بنسب متباينة في الناتج المحلي الإجمالي، تراوحت بين 6 % عام 2005 و 9% عام 2009، رغم الاستثمارات الحكومية والخاصة، والمشاريع المشمولة بقوانين الاستثمار. أما خلال سنوات الأزمة والغزو، فقد عانت الصناعة تخريب المنشآت.. وحرق المنتجات، وهجرة الرساميل والعمال، وتراجع القدرة على الإنتاج، وبلغت خسائر القطاع الصناعي حسب تقديرات الخبراء نحو تريليون ليرة سورية.

2 – القطاع الزراعي

أدت الزراعة دوراً أساسياً في الحفاظ على الأمن الغذائي للبلاد، وجنّبتنا ضغوطاً خارجية عديدة في الماضي، لكنها تراجعت خلال عامي 2007و 2009، وانخفضت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 23 % عام 2005، إلى 16 % في عام 2009. ولا يعود السبب في ذلك إلى العامل المناخي فحسب، بل هناك مجموعة من المنغصات التي واجهت الزراعة السورية، كرفع أسعار المشتقات النفطية وتحرير أسعار السماد، وتحكم السماسرة بأسعار المنتجات (غير الاستراتيجية)، وتخلف المناطق الزراعية.

أما خلال سنوات الأزمة والغزو، فقد تراجعت المساحات المزروعة، وأحرقت مساحات أخرى، وفعلت المنظمات الإرهابية فعلها في تهجير الفلاحين واليد العاملة الزراعية، وتقدر الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي بنحو 16 مليار دولار.

لذلك نعتقد أن خطة التنمية العتيدة يجب أن تتركز على تنمية المناطق الشرقية والشمالية، إذ لا يجوز تهميش تنمية المناطق التي تعدّ المستودع الرئيسي للمحاصيل الزراعية، والضامن الفعلي لأمننا الغذائي.

3 – القطاع التجاري

حافظت تجارة الجملة والمفرق على قيادتها للقطاعات الاقتصادية، وتراوحت مساهمتها في الناتج المحلي بين 20.3% في عام 2005، و 18.3 % في عام 2008، لكن هذا القطاع مرتبط ارتباطاً شديداً بقطاعَيْ الصناعة والزراعة في نشاطه التصديري، لذلك تكتسب تنمية هذين القطاعين أهمية بالغة. كذلك نرى ضرورة العمل على إخضاع تجارتنا الخارجية لمتطلبات التنمية المعتمدة على الذات، والحد من استيراد السلع الكمالية، والسلع المماثلة لمنتجاتنا الوطنية، وعودة مؤسسة التجارة الخارجية الحكومية إلى لعب دورها في تأمين المواد الأساسية لاستهلاك المواطن، ومستلزمات الإنتاج للقطاع الصناعي العام والخاص.

ب- قطاع عام ومرافق استراتيجية مملوكة للدولة

يلعب القطاع العام والمرافق الاستراتيجية المملوكة للدولة دوراً محورياً في النهج التنموي المعتمد على الذات، فهما القطاعان اللذان يضمنان تطبيق السياسة الاقتصادية للبلاد، وساهم القطاع العام بنحو 32% من الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 20011، وتتنوع إسهامات القطاع العام بين الصناعة التحويلية والاستخراجية، والكهرباء والمياه والاتصالات، وشبكة المصارف العامة.

لكن القطاع الصناعي كان يعاني ارتفاع تكاليف الإنتاج من جهة، وإنتاج منتجات ذات مواصفات متدنية ناجمة عن التقادم التكنولوجي لخطوط الإنتاج من جهة ثانية، إذ بلغ عدد الشركات التي تجاوز عمر خطوطها الإنتاجية 25 عاماً دون أن تجري عملية استبدال وتجديد لها 73 شركة، لكن هذا القطاع رغم ذلك صبّ في خزينة الدولة 34 مليار ليرة سورية في عام 2010، أما في سنوات الأزمة، فقد تعرض هذا القطاع لمثل ما تعرضت له قطاعاتنا المنتجة الأخرى، فأُحرقت العديد من منشآته، وخُرِّبت.. وسُرقت وسائله الإنتاجية، وهاجر عدد كبير من عماله الفنيين.

لذلك تتسم عملية إصلاح هذا القطاع بأهمية فائقة في المرحلة الحالية، إذ يشكل ذراع الحكومة في التدخل الإيجابي في العملية الاقتصادية، وضمانة مجربة لنجاح سياسة الاعتماد على الذات، ونرى أن إهمال إصلاح هذا القطاع، والتفريط بملكية الدولة للمرافق العامة، سيضع الحكومة في موقف المعرقل لأي تنمية اقتصادية أو اجتماعية.

السجال حول مسألة السياسات الاقتصادية الملائمة للنهوض السوري مستمر، ولن ندعي امتلاكنا للحلول الوحيدة، لكننا ننطلق هنا من الدروس والعبر التي خلّفها العقد الماضي، ومن تجارب الشعوب الأخرى، ومن ضرورات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وعدم الاكتفاء بإعادة الإعمار، فبناء الإنسان السوري، والعوامل التي تساعده في الإسهام بدوره الإيجابي في إنهاض بلاده، لا تقل أهمية عن بناء الحجر.. وزرع الشجر.

basharmou@gmail.com

 

الهوامش

1 – راجع د. منير الحمش- صحيفة النور- العدد504

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024