هل هذا طباق أبديّ؟

غياث رمزي الجرف:

كل المعطيات تشير إلى أنه ما من مدرسة أدبية أو مذهب أدبي ظهر وتطوّر وثبت واستمر، أو انحلّ وتلاشى ودخل متحف التاريخ، إلا وكان له خلفية فلسفية. فالتيارات والاتجاهات والمذاهب الأدبية (الكلاسيكي، الرومانسي، الواقعي، الواقعي الاشتراكي، الرمزي، البرناسي، السُّريالي …) لم تستطع، عموماً، أنْ تنجو من تأثير الفلسفات المختلفة عليها، بل في بعض الأحايين من هيمنتها وسيطرتها. إنّ المذاهب الفلسفية هي، من قبلُ ومن بعدُ، انعكاس للأوضاع (النظم) الاجتماعية، فالنظام الرأسمالي الجديد، على سبيل المثال، الذي نهض على أنقاض النظام الإقطاعي، أنتج مذهبه الفلسفي وعلومه التي تفرعت عنه، وتجلياته الثقافية كانت على كل صعيد، فعلى الصعيد الأخلاقي كان التيار النفعي الفردي، وعلى الصعيد الاقتصادي كان مبدأ (دعه يعمل، دعه يمرّ)، وعلى الصعيد الأدبي كان التيار الرومانسي أو الرومانتيكي أو الرومانطيقي… وهكذا، ففي الوقت الذي كان فيه (جان جاك روسو) يمهّد للرومانسية في فرنسا ويعتقد بالفلسفة المثالية التي ترى الحياة رغداً وطيبَ عيشٍ وسعادة وجمالاً، وتتغنّى بخيرية الإنسان الطبيعية، وتقول عبر نظرية العقد الاجتماعي: إنّ الحياة الاجتماعية/ المدنية هي التي قامت بإفساد هذا الإنسان الخيّر بطبعه؛ في هذا الوقت كان (فولتير) يمهّد للواقعية، ويسخر في شعره وقصصه وكتاباته سخرية لاذعة من المثالية، ويلتزم فلسفياً بالتصوير الحي الأمين لمظاهر وتجليات الحياة والطبيعة كما هي، ويعرض الأحداث والظروف والآراء والأفكار دون نظرٍ مثاليّ في كل ذلك. بناء على هذا النظر الفلسفي غدا فهم الواقع وإظهار خفاياه ووقائعه وتفسيره، والعناية بتصوير أحوال الناس والمجتمع على ما هو عليه، هو همّ الواقعية الأكبر، إلا أنّها أي الواقعية تنظر إلى الحياة ووقائعها ومختلف مظاهرها من منظار أسود، وترى أنّ أصل الحياة وجوهرها هو الشّر، وما يخلّفه من ظلم وفساد وقهر ووحشية وقسوة ومحن وعذاب. فالقيم الأخلاقية وجميع القيم التي تسمّى قيماً خيّرة هي قيم مبنية فلسفياً ولغوياً وواقعياً على الأَثَرَةِ (الأنانية، حبُّ الذات والنفس مع عدم التفكير بالآخرين، الاستئثار، وتفضيل المرء نفسه على غيره بإطلاق) التي تقف في الجهة المقابلة والمضادة للإيثار. وهذه القيم، كما ترى الواقعية، تقف عاجزة أمام الجبروت المدمر لذلك الوحش الكامن في العالم السفلي المظلم للإنسان. ألم يقل الفيلسوف الإنكليزي الواقعي (هوبس) أنّ الإنسان للإنسان ذئب ضارٍ، أو إنّ الإنسان ذئب على أخيه الإنسان؟!

والتاريخ الإنساني المتشح بالسواد، المدمى والمثقل بالمظالم واللاعدل. ألم يقل لنا أنّ القيصر، دائماً وأبداً، هو القيصر؟ ألم يُظهر (سعد الله ونوس) بشكل لا يقبل الشك أنّ الملك هو الملك في كل زمان ومكان؟ ألم يصرخ الشاعر (خليل مطران) في (قصة الظلم البشري) قائلاً: إنّ (كسرى) هو كل حاكم مستبدّ، ظالم، جائر على مرّ العصور؟ ألم (يندّد) في الوقت نفسه بالشعوب الخانعة، الخاضعة، الساكنة، المستكينة والمستسلمة؟ ‏

إنْ تستطعْ فاشربْ مِن الدّمِ خمرةً

واجعلْ جماجمَ عابديكَ نعالا ‏

لو كانَ في تلك النعاجِ مقاومٌ

لكَ لم تجئْ ماجئْتهُ استفحالا ‏

ألمْ يعلن المفكّر الرائد الجريء، المغتال (عبد الرحمن الكواكبي) الذي وقف حياته على مناهضة الظلم ومقاومة الاستبداد: إنّ المستبدّ يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلمُ من نفسه أنّه الغاصب المتعدي فيضعُ كعبَ رجلِه على أفواه الملايين يسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته. فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم. ومن المعلوم أنّ الاستعداد للفعل فعلٌ يكفي شرّ الاستبداد؟

أما نشيد الشعر العربي أبو الطيب المتنبي فقد كان يرى أنّ النفس البشرية مطبوعة على الظلم، وأنّ الناس مجبولون عليه، فهو من خلقهم وطبيعتهم فإذا صادفَ أن رأيتَ من يعفّ عن الظلم فلا يغرّنكَ ذلك، فما صدّه عن الظلم وتركه له إلا لعلّة من العلل! ‏والظّلمُ من شيمِ النّفوسِ فإنْ تجدْ ذا عفّةٍ فلعلّةٍ لا يظلمُ ، ولكنّ أبا الطيب لم يكشف عن هذه العلّة، أهي علة سياسية، أم علة دينية، أم نفسية؟ أهو الخوف والضعف، أم الجبن، أم العجز، أم اليأس، أم المباهاة، أم المجد، أم كل ذلك جميعاً؟ ‏

أياً كان الرأي، وأياً كان الجواب والموقف ممّا تقدم جميعاً نقول: كي نؤسس عقداً اجتماعياً مبنياً على دعائم العدالة والحرية والديمقراطية والكرامة والنماء، على حق المواطنة المتساوية بغض النظر عن الجنس والمذهب والطائفة والعرق، لا بدّ من تغيير بنيوي يتصدى للظلم والفساد إلى أن يزولا، ولا بدّ، من قبلُ ومن بعدُ، من مواجهة الاستغلال والاستبداد ومقاومتهما على كل صعيد(…). إن الظلم والفساد والاستغلال والاستبداد شر مطلق. وبالتزامن مع ما كتبنا أعلاه نقول: إنّ القيم الخيّرة ضرورة قصوى، ولو لم تكنْ موجودة لوجب أنْ تُخترع لأجل الإنسان واستقامة الحياة الإنسانية قاطبة.

giathaljrf30@gmail.com

العدد 1102 - 03/4/2024