هذه القاعات الباردة

حسين خليفة: 

العزلة المُزمنة التي تُعاني منها نشاطات وزارة الثقافة، رغم أنها بحالة أفضل نسبياً من نشاطات اتحاد الكُتّاب التي دخلت حالة موت سريري منذ عقود بسبب وضع الاتحاد المعروف، تلك العزلة عن الجمهور تشملنا أيضاً، نحن الذين نعتبر أنفسنا معنيين بالكلمة وبمتابعة الحراك الثقافي والفكري في البلد، أو في مدينة دمشق على الأقل، وقد زادت سنوات الحرب العجاف من هذه العزلة وفاقمتها، فصار النشاط الذي كان يقام قبل الحرب في قاعة النشاطات بالمركز الثقافي مثلاً لا حصراً،  لكنه لا يجذب سوى بضعة أشخاص من أصدقاء الكُتّاب المشاركين وعائلاتهم وبعض المهتمين بحكم عملهم في وسائل الإعلام لتغطية نشاطات كهذه، أصبح النشاط يقام في مكتب مدير المركز الثقافي غالباً، وتبقى هناك كراسي فارغة في المكتب أيضاً، وكنت شاهداً على أكثر من فعالية ثقافية لم يحضرها سوى الكُتّاب المشاركين ووسائل الإعلام المكلفة بالتغطية.

الأسباب معروفة وعديدة، أهمها مناخ الإنتاج والتواصل الإبداعي، فالمبدعون الحقيقيون غادروا أو صمتوا في معظمهم، وصارت الساحة ملعباً للرداءة، وهذه الحالة قديمة قدم عهود الإلغاء والتهميش وسيادة الرأي الواحد، الأمر الذي جعل قامات فكرية وإبداعية عالية تُقرر الخروج من البلاد أو الابتعاد عن الأضواء والصمت، وزادت سنوات الحرب في تفاقم الحالة ممّا خلق فراغاً حقيقياً في الساحة الثقافية من المبدعين، وصار كُتّاب التقارير ومُعلقات المديح والسجع السقيم يعتلون المنابر ويصبحون فرسان القاعات الباردة.

على هامش هذه الحالة الموجعة والمُحزنة ظهرت مبادرات شبابية في غالبيتها اتخذت من النشاط الإبداعي خارج المؤسسات الرسمية هدفاً لها، لخلق جمهورها المختلف وتقديم ما أمكن من أصوات إبداعية في شتّى مجالات الثقافة والفن، وبإمكانات متواضعة، وظهر هذا في الملتقيات الثقافية في بعض المقاهي والمطاعم والفنادق في دمشق ومدن سورية أخرى، وهذه المُلتقيات وإن أفسحت المجال للكثير من الغثِّ أن يمرَّ عبرها، لكنها لم تخلُ من اكتشاف مبدعين حقيقيين لم يكونوا يملكون أدوات تواصل مع الآخرين لولا هذه المُلتقيات، وقبلها وسائل التواصل الاجتماعي والفيسبوك تحديداً.

تلقفت وزارة الثقافة بعض الأصوات والمبدعين في مجالات شتّى، بمبادرات من بعض المفاصل الثقافية المهتمة بالحالة الإبداعية الرتيبة في البلاد، وكان أن أُقيمت مهرجانات ثقافية (شعر، قصة، سينما، موسيقا) في السنوات الأخيرة، وأُحدِثت جوائز رغم هشاشتها وضعفها حركت بعض الراكد في الحالة الثقافية عموماً ولو بخجل شديد.

لم تخلُ هذه المبادرات من الأمراض التي تسم كل نشاط رسمي، من اعتماد الشللية أحياناً، والواسطات، وتزكية جهات لا علاقة لها بالثقافة لأسماء بعينها، وظهور حالات لا علاقة لها مطلقاً بالإبداع والثقافة دخلت حيّز الضوء، بل ونالت جوائز وملأت صفحات الدوريات الثقافية (خصوصاً دوريات الاتحاد التي تهوي إلى الأسفل بسرعة الضوء)، لكنها تبقى تحمل شرف المحاولة، وأضاءت على حالات شبابية مُبدعة وتستحق الاهتمام، وهذا مؤشر إيجابي.

إن الاهتمام بإبداع الشباب هو المدخل الأول والضروري لإخراج الحالة الثقافية من عنق الزجاجة، لكن هذا الكلام عمومي، ويجب وضع النقاط على الحروف قبل أن نهزّ رؤوسنا ونوافق عليه.

ملايين الشباب السوريين الذين خرجوا أو أُخرجوا إلى المنافي البعيدة، وبينهم أعداد كبيرة من الشعراء والفنانين والمفكرين، هؤلاء ثروة فكرية وإبداعية لا يتجرأ أحد على الإشارة إليهم أو المطالبة بعودتهم ورفع الحظر عنهم، ويقف دون تحقيق هذا الأمر استمرار الوضع السياسي العام دون حلول تعيد اللحمة الى السوريين وتعيد بناء نظامنا السياسي على أسس ديمقراطية، كما يقف كُتّاب التقارير بالمرصاد لأيّ محاولة حتى ولو كانت لإلقاء ضوء على هؤلاء المبدعين ونتاجهم الإبداعي المتميّز في بلاد الاغتراب والمنافي.

إن تخطي هذا الجمود المزمن في الحالة الثقافية يحتاج إلى قرارات جريئة، برفع الحظر عن الإبداعي وكفّ يد الرقيب (العصملّي) عن الإبداع، ومغادرة حالة الاستقطاب السياسي الحاد في الحقل الثقافي (من ليس معنا فهو خائن وعميل)، وحينئذٍ يمكن لنا أن نتحدّث في السويات والخطط والنهوض الثقافي.

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024