رؤية سـياسية وتقنيّة: الفيدرالية جزءٌ من حلٍّ سياسيّ.. أم إجهاضٌ له؟

صريح البنّي: 

رأت هيئة تحرير (النور) إعادة نشر هذه المقالة، التي كتبها الرفيق المهندس صريح البني، (ونُشرت في العدد 714)، إذ تلبّي الحاجة إلى رؤية متوازنة في المرحلة الحالية للمسألة الكردية:

 

ماذا يقول التاريخ والجغرافيا السوريان؟

 عندما تكون مسّاحاً أو جيولوجياً، لا يبقى الوطن، بالنسبة إليك، رابطة معنويةً رمزية أو مجرد هوية، بل علاقة ماديّة حيّة ملموسة ومعاشة، علاقة حوار يوميّ مع الأرض، تضاريسها وأخاديدها وألوانها، والأهم: حوار مع الذين يعيشون فوقها.

أن تعمل خمسين عاماً، وأنت تقيس الأرض وتنقّب فيها، يعني أنه ليست هناك بلدة أو قرية، في أقاصي الجهات السورية الأربع، لم تعمل فيها وتتعرّف على ناسِها، ولك معهم ذكريات مغروسة في القلب.

ولكن إحدى الصور الواضحة التفصيلية، في دماغي، للجغرافيا السورية التي اشتركتُ، طوال عمري المهني، في تغطيتها بخرائط هندسية طوبوغرافية، ذات مقاييس كبيرة، هي تلك التي تتلاصق فيها القرى الكردية والآشورية والعربية وغيرها، في منطقة الجزيرة، بحيث أعجزُ، بصفتي مسّاحاً قديماً، عن اقتراح نقاط الحدود الفاصلة (على الخرائط، أو تثبيتها على الأرض) بين الأقاليم (الفيدرالية) في مناطقنا الشمالية، المعنيّة، على الأغلب، بما يجري تداوله، في الفترة الأخيرة.

 

في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية

 بيد أنني أدرك أن الأصعب من الجانب التقاني، هو تلك الجوانب الوطنية والإنسانية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وسكانياً وأخلاقياً، التي يمكن أن تترتب، واقعياً، على ما وراء الدعوة الفيدرالية، الآن. ذلك أن إعادة النظر بشكل الدولة وأسلوب إدارتها، أمرٌ ممكن وضروري، عندما يأتي، في سياق تطورٍ طبيعي، يحتاج إليه السوريون، موضوعياً، وليس نتاجاً لحربٍ أو لأزمة. عندئذ، يكون مطلوباً إعادة النظر بتجربة الإدارة المحلية، بحيث نخفّف، في صيغها المنشودة، من دور الإدارة الحكومية المركزية، شريطة أن لا تنمو، بديلاً لها: تأثيرات البنى الاجتماعية المتأخرة، في مناطق سورية عديدة. سنرحّب عندئذ، على سبيل المثال، بأن يكون لجميع السوريات، دستورياً، تلك الحقوق التي نالتها المرأة الكردية، وبضمن ذلك حقّ/ واجب أن تتصدى بتلك البسالة للجحافل الداعشية.

 أسأل أصدقائي الكثر، من كرد عفرين والجزيرة ودمشق، لأطمئن: هل يريدون أن تتحول سورية إلى دولةٍ فدرالية؟ أسمع، دائماً، جواباً بالنفي. يقول البعض إنهم يريدون حقوقاً ثقافية، يمكن أن تُجسِّدها صيغة دستورية، توفر للكرد شروط المواطنة، شأن السوريين جميعاً، ويكون لهم أفضلية العمل في مشاريع الدولة، لكيلا ينزحوا إلى دمشق وغيرها، بحثاً عن عمل، وأن تحصل الجزيرة على نصيبٍ وافٍ من ميزانية الدولة، يعادل ما تشارك في صنعه من الدخل الوطني، وهو كبيرٌ. فعدا الثروة النفطية، هناك مشروع الريّ الأكبر القادم، من مياه دجلة، لعله يكون تأسيساً مادياً لعلاقة مواطنية واعية، في جزيرة، ما بعد الأزمة.

ولكن، ربما يكون لدى بعض مواطنينا الكرد، ما يتجاوز تلك المطالب العاقلة المشروعة، ذهاباً نحو الفيدرالية، وأبعد منها؟

هل المقصود صيغة شبيهة بما يمثله إقليم كردستان العراق؟ أم أشمل: سايكس بيكو جديد، كما يقترح أحد قادة الإقليم؟ وهو يعدّ العربَ (هكذا بالجملة!) مسؤولين عن معاناة الأكراد؟ هل التاريخ السوري المديد (والعراقي أيضاً)، عبر آلاف السنين، هو تاريخُ صراع عربيّ كرديّ؟

ما يجري تنفيذه على الأرض، هو: إلغاء التدريس باللغة العربية، ضمن مناهج الصفوف الأولى في المدارس الابتدائية؟ بل حتى البدء بتشكيل منظمات مهنية خاصة بالكرد؟

هل تنتمي الحقوق القومية للكرد السوريين إلى ما جرى تصنيفه، ضمن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وبضمن ذلك: الانفصال؟ ما علاقة تلك الحقوق ببقاء الدولة السورية؟ ما علاقتها بالحقوق القومية للعرب وسواهم من السوريين؟

***

لم يُنتج سايكس بيكو حلاً للمسالة القومية العربية، وما كان له أن يفعل، فهو أسّس دولاً ذات تكوين مختلط، قومياً ودينياً. كانت فترةَ انتدابٍ استعماريٍ مُعلن وموافق عليه دولياً. لعلّ أحد دلائل نضجنا الوطني هو الانطلاق من فشل الفرنسيين في تقسيم أوسع للدولة السورية المنتدَبة، ثم فشلهم في البقاء فيها. أما سايكس بيكو عام 1916 فهو، بكل سلبياته الجليّة، أنتج، لأول مرة، دولة مستقلّة تحمل اسم سورية، منذ فترة سرجون الآكادي، قبل ما يقرب من 2400 عام. لعلنا نفطن، أخيراً، إلى أن هذه الدولة هي بشكلها القائم، ما ينبغي الحفاظ عليه وحمايته وعدم القبول بأن تكون مجرد منطقة نفوذ أو أمن لدول قريبة أو بعيدة، أو أن تكون دولة مؤقتة عابرة إلى مشاريع دولٍ قومية أو دينية، تعيدها إلى ما قبل الاستقلال.

لقد انصهرت الحقوق القومية للعرب والكرد وغيرهم من مكوّنات الشعب السوري، وتداخلت، عبر التاريخ، في نضالٍ وطنيٍّ مشترك ومتواصل، صددنا، خلاله، معاً، الغزوات الصليبية، ثم تخلّصنا من التبعية للدولة العثمانية، وبعدها: من الانتداب الفرنسي.

 

لا تجوز محاسبة كيان الدولة على أخطاء الحكومات

أما الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها حكومات متعاقبة، في لحظات من التاريخ الحديث (إحصاء عام 1962 وما تلاه)، فواجبنا هو عدم جعلِها صفةً طاغيةً تقيّد علاقات التعايش الوطني. هي أخطاء يجب أن لا تُحاسب عليها الدولة، لأنها تعني أشياء أكبر وأكثر ثباتاً، اشياءَ منفصلةً، بالمعنى التاريخي، عن الحكومات، بل أن تُؤخذ منها العبر، فلا نتّهم أحداً بما يسيء لكرامته الوطنية.

عُولجت المسألة الكردية، خلال تلك الفترة، على نحوٍ غير صحيّ، انطلاقاً من رؤية قومية ضيقة، تخشى تكرار المأساة الفلسطينية، في الشمال الشرقي السوري؟ ربما يأتي وقت، نعتذر فيه عما سبّبناه لبعض الكرد، من أضرارٍ مادية ومعنوية.

ولكن واجب إخوتنا الكرد هو أن لا يوقظوا تلك المخاوف لدى العرب، ليأتي بعضُنا ويقول: ألا ترون؟ كنّا على حق!

ما زلنا في مجابهة مع ردّة سوداء، استنزفتنا بوحشية، تختلط مع عملية مديدة ومتعثرة هي: الحفاظ على الدولة القائمة وتطويرها لتغدو مدنيّةً، تداولية. ليس من الصواب أن نُخضع مشروع إنهاء الأزمة وشكل الدولة الوطنية القادم، لاعتبارات تتعلق بمشاريع ذات أبعاد إقليمية وقومية ودينية، أبعد من حدود الدولة السورية. يؤدي هذا، لا محالة، إلى تعقيدٍ كبير في المسألة الوطنية، المعقدة أصلاً، بل إنه يزجّنا في صراعات ليس لها حلٌّ، حتى الآن، حول الحقوق القومية للكرد، في تركيا وإيران.

بوضوح أكبر: لا تحتمل الحالة السورية إنشاء إقليم كرديّ في شمالنا، ملاصق لتركيا، تكون وظيفته ليست، فقط، تحقيق الحقوق القومية للكرد السوريين، بل ستتشابك مع النضال المشروع لنيل الحقوق القومية للكرد الأتراك، في نزاعٍ مزمن، لا تبدو نهايته قريبة، لأنه مرتبط، بشكلٍ وثيق بالمسار الغامض لتطور الدولة التركية.

أراهن، كثيراً، على دور رفاقنا الكرد من شيوعيي الأحزاب المختلفة، الذين عملوا، على الدوام، تحت سقف الانتماء السوري العريض والرحب، كي يُسهموا في إقناع مواطنيهم بأن المسألة القومية الكردية تختلف، في سورية، عما هي في العراق أو تركيا أو إيران. هكذا كانت نظرة الحزب، منذ القديم، وأعتقد أن ثمّة الكثير مما يبرر استمرارها وإنضاجها، في ظروفنا الراهنة.

العدد 1104 - 24/4/2024