مواقف الحزب من تطورات الأحداث في سورية

بولس سركو:

لم يتخيل أحد قبل آذار 2011 أن تصل بلادنا إلى الأوضاع المأساوية التي نشاهدها اليوم ونعيش تفاصيلها، رغم القلق الكبير الذي كان يساور الشيوعيين من النتائج المحتملة للنهج الاقتصادي السوري في ظل العولمة الأمريكية، الذي دفع الفوارق الطبقية إلى تخوم التصادم، بالتزامن مع انتشار ثقافة تلك العولمة العابرة للحدود الوطنية والطبقية، والتي قوّضت إلى حدّ كبير فرص الصمود المجتمعي، بما أحدثته من نكوص عرقي ومذهبي وطائفي في الوعي.

لا بد من استذكار المواقف، ونحن نراكم سنوات الموت والدمار والجوع والحصار والفوضى والتعب، أمام بعض المشكّكين بدور حزبنا الشيوعي السوري الموحد، وفعاليته، ومستوى وعيه الفكري والسياسي، من خلال قراءته التاريخية لتطورات الأحداث، وتحليله العلمي الجدلي الدقيق لها، واقتراح الحلول التي تصبّ في المصلحة الوطنية، منذ الهبّات الأولى لرياح العولمة الأمريكية.

حين انعقد المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي السوري الموحد عام ،2001 كان قد مرّ عقدٌ من الزمن على سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية، وما تبعه من سقوط العالم بين الأنياب الدامية للوحش الأمريكي، السقوط المريع للقيم الأخلاقية والفكرية والمبادئ الإنسانية وللشرعية والأعراف الدولية والعلاقات بين الدول، وكانت سورية أمام خيارات صعبة في طريقة تعاملها مع المتغيرات الدولية وخاصة في المجال الاقتصادي، بسبب استحالة الاستمرار بالنهج السابق، وفي الوقت نفسه كيفية ربط التحديث بالسيادة والانتقال الآمن في عملية ما سمي بالانفتاح.

وصف الرفيق الراحل يوسف الفيصل، في كلمته في افتتاح المؤتمر، تلك المتغيرات بـ (حرب السيطرة الأمريكية على العالم)، وحذر من فرض النظام الاقتصادي اللبرالي الذي سيؤدي إلى المزيد من الأزمات والتوتر في العلاقات الدولية، في معارضةٍ واضحة للنهج الذي بدأ يتكرس من خلال 113 مرسوماً وقانوناً صدرت في العام ذاته، بهدف دمج الاقتصاد السوري بالعالمي، وقد حددت الكلمة الخطوات التي يجب اتباعها للحدّ من التأثيرات السلبية على الأمن الاجتماعي، الناجمة عن المضيّ في عملية الدمج، ومنها إعادة النشاط التنموي بمشاركة كل القطاعات، مع العمل على إصلاح القطاع العام باعتباره العمود الفقري للاقتصاد السوري الذي يعمل فيه قرابة نصف الطبقة العاملة، ورفض الخصخصة ودعم هذه الخطوات الاقتصادية بإصلاحات سياسية كفيلة ببناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وأهمها حرية التعبير عن الرأي والاعتقاد، والتنظيم الحزبي، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وترسيخ التآخي بين الجميع على اختلاف انتماءاتهم، وترسيخ الوحدة الوطنية، وإلغاء القوانين الاستثنائية.

في المؤتمر العاشر عام 2006 ركز التقرير السياسي أيضاً على ضرورة الاستناد إلى الشعب بكل فئاته، وحشد الجماهير للدفاع عن الوطن وحماية الاستقلال، موضحاً أن التناقض الأساسي في هذه المرحلة هو بين قوى حركة التحرر الوطني من جهة، والمشروع الإمبريالي الصهيوني من جهة أخرى، وفضح التقرير ادعاء جماعة الأخوان المسلمين قبولها للديمقراطية ورفض العنف، وطالب بمعالجة ظاهرة الإسلام السياسي المتنامية، من خلال خطاب عقلاني علماني يفصل بين الدين والدولة والسياسة، وشدد على ضرورة استكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية المعاصرة، وهي عملية اقتصادية واجتماعية وقانونية وإدارية وثقافية. وعاد التقرير الاقتصادي الاجتماعي للتأكيد على معارضة الحزب للنهج الاقتصادي الليبرالي، والتحذير من مخاطر غلبة الاتجاه الرأسمالي في البلاد وما يتبعه من اندماج في السوق المعولمة، الذي سيمتد إلى التشريع والإدارة والفكر والإعلام والثقافة والتقاليد لضمان سيطرة الملكية الخاصة، وهو ما تريده وتسعى إليه البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية ومن يدعمها. وتحت بند الأزمة وإمكانية مواجهتها جاء: (بدأت الأزمة الاقتصادية منذ منتصف الثمانينيات، وهي في وضع متصاعد وخطير، ولا يعرف على وجه التحديد أين ومتى يمكن أن تقف؟ وحزبنا لم يوفر جهده في التنبيه والتحذير من آثارها منذ البداية، ومن المكابرة على نتائجها والركون إلى مفاهيم وممارسات خاطئة في معالجتها، ولم يدع فرصه تفوته دون أن يعبر عن قلقه من تدني مستويات الإنتاج والإنتاجية، ومن إهمال القطاعات المنتجة، ومن تزايد البطالة، وتدهور الخدمات، وزيادة الفساد، وتدنّي مستوى المعيشة، وتنامي روح الفردية، وهجرة الكوادر).

سنوات طويلة مرت على البلاد دون أن تلقى تحليلات  الحزب والحلول المقترحة في مؤتمراته وعبر جريدته (النور) آذاناً مصغية، إلى أن تزامن انعقاد  المؤتمر الحادي عشر عام 2011 مع بداية العدوان على سورية، ونجاح القوى الخارجية في خرق المجتمع السوري من الداخل، واستمالة جزء كبير من الطبقة المهمشة والفقيرة التي كانت نتاج السياسة الاقتصادية الليبرالية، وجاء في كلمة الرفيق حنين نمر (الأمين العام للحزب) في افتتاح المؤتمر: (مرّت على البلاد في العقدين الماضيين ظروف غاية في الصعوبة والخطورة، فقد تعثّرت عملية التنمية، واستفحلت الأزمات الاجتماعية، وحوصرت البلاد وهدِّدت بالاحتلال، وتجند فريق لبناني للهجوم على سورية، وتآمرت دول عدة عليها بقيادة الولايات المتحدة التي أطلقت مشروع الشرق الأوسط الكبير)، وتابع مشيراً إلى العامل الداخلي: (بعد مرور عدة سنوات على شحن الأجواء بالهجوم على القطاع العام ودور الدولة في الاقتصاد، والتبشير بمحاسن اقتصاد السوق الحر، فإن النتائج تبدو معاكسة لما بشّروا به). وتضمّن التقرير السياسي مطالبة بمراجعة النهج الاقتصادي، وبدلاً منه اعتماد نهج تنموي متوازن بقيادة الدولة ومشاركة الرأسمال الوطني المنتج، ومراعاة مصالح الفئات الفقيرة، وتوفير فرص العمل، ووضع سياسة عادلة للأجور، والتركيز على الضمان الاجتماعي والصحي، واستمرار الدولة بدورها الراعي. ووضع التقرير مهام محددة بخصوص الوضع الداخلي، أهمّها تطوير الحياة الديمقراطية، وتفعيل دور الجبهة الوطنية التقدمية، وضرورة الانفتاح السياسي على القوى ذات التوجه الوطني، واحترام الحقوق الشخصية للمواطنين وصون كراماتهم، واستقلال القضاء، وفصل السلطات، من أجل التصدي للمهام الوطنية الجسام. وأعاد التقرير التأكيد أن التوجه الاقتصادي الحالي لا يخدم إلا مصالح فئة قليلة من الرأسماليين الطفيليين، ويضرّ بمصالح أغلبية الشعب.

عندما حلت الكارثة بالبلاد، وحصل ما كنّا نخشى وننبّه من حصوله، ومع تصاعد العنف في مدينة درعا التي تحولت إلى ساحة حرب، ظهرت المستشارة الإعلامية الرئاسية  بثينة شعبان على الإعلام لتنقل اعتراف القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي بالمطالب المحقة للشعب السوري، التي كنا نصر على وجوب تحقيقها منذ عقود، بهدف صيانة الجبهة الداخلية لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، ولتعلن قرارات القيادة التي تشمل إصلاحات سياسية واقتصادية، وإنهاء العمل بقانون الطوارئ، وإعداد مشاريع قوانين لتنظيم الحياة الحزبية والإعلام، وتعزيز سلطة القضاء، ووضع آليات لمحاربة الفساد .

مع كل هذا التأخير، كان العرف السياسي والمنطق العقلاني والمصلحة الوطنية العليا وبروز التأثير البالغ للعامل الخارجي في تحقيق أهداف المشروع الأمريكي الصهيوني، عن طريق خداع الشارع السوري بالثورة والحرية و… الخ، كل ذلك يقتضي ملاقاة ذلك الإعلان بالترحيب والدفع باتجاه تنفيذ بنوده، لكن، ماذا كان ردّ القوى المعارضة الداخلية، وبشكل خاص الدينية منها وهي الغالبة؟

رفضت هذه القوى الإعلان في خطوة تصعيدية استفزازية، وذهب أحد رموز المعارضة الشيخ أحمد الصياصنة إلى حد الشعور بالإهانة، بسبب ردّ الحكومة الذي جاء عن طريق امرأة، وقال إن هذه ليست مطالب الشعب السوري، وإن زمنها قد مضى. وبالمقارنة بين هذا الموقف المتشنج لقوى مرتبطة بالمشروع الخارجي وتحمل ثقافة رجعية، والنضوج السياسي في موقف الحزب الشيوعي السوري الموحد، المبني على قاعدة تلازم النضالين الطبقي والوطني، تنكشف يوماً بعد يومٍ الحقيقة أمام شعبنا.

العدد 1102 - 03/4/2024