آن له أن ينصاع

عماد عبيد:

في كتابهما (الأدب والإيديولوجيا في سورية) يصنف الناقدان نبيل سليمان وبوعلي ياسين الكاتبَ الروائي فارس زرزور، بأنه أحد رواد مذهب (الواقعية الاشتراكية)، ولئن كان الروائي (زرزور) قد بدأت مسيرته الأدبية تظهر مع أدباء المرحلة الثانية ـ كما يسميها الدكتور حسام الخطيب في كتابه (روايات تحت المجهر – الراصد لتطور الرواية السورية) ـ إلا أنه سجل حضورا لافتاً في المرحلة الثالثة التي سطعت بها أسماء تعتبر من سدنة الفنّ الروائي في سوريا، أمثال (حنا مينة – وليد إخلاصي – هاني الراهب – حسيب كيالي – وغيرهم) وتميزت كتاباته بتبنيها لقضايا الكادحين وإبراز هوية الانتماء الطبقي والتبشير بالأمل المعقود على همم الشعوب التي تصنع انتصاراتها.

ولا تختلف هذه الرواية (آن له أن ينصاع) عن الانتماء المذهبي الأدبي لخط الأديب (زرزور) فهي رواية واقعية اجتماعية بامتياز، تطل المفاهيم السياسية منها بوضوح جلي، وتركز على الرؤية الطبقية للحياة مع تحيز واضح للطبقة الكادحة.

زمكنة العمل تحكي عن نفسها، فالمكان منطقة بناء سد الفرات جوار مدينة الرقة السورية، والزمان هو عقد السبعينيات من القرن العشرين، وكل أحداث الرواية تدور في ذلك المكان وفي تلك الحقبة، ما خلا منها ما عرجت عليه الرواية لضرورة تكامل الصورة الروائية – وفق أسلوبية السرد المرسل أو السرد الاسترجاعي – حيث يكون الحدث الرئيس حكاية قصة بناء سد الفرات فوق نهر مشاكس ينبذ القبض على جريانه، ويتعصب لمزاجه، ويأبى التدجين امتثالاً لرغبات الإنسان، لكن العقل البشري وقدراته وإبداعاته يصنع المعجزات عندما يتحصن بالعلم والمعرفة، هكذا كانت حكاية صناعة هذا السد، وهكذا استطاع الانسان تسخيره لمصلحته، فهؤلاء النخبة من كوادر العمل استطاعت بدأبها ونشاطها وإصرارها تطويع النهر، فجعلوه ينصاع لرغباتهم دون أن يمسّوا جوهر وجوده، وهو العطاء ونبض الحياة.

أشخاص الرواية أناس عاديون بتكوينهم، ظرفاء بمعيشتهم، طيبون بانتماءاتهم ونواياهم، خلاقون بأعمالهم، عاطفيون بمشاعرهم، صادقون بوطنيتهم، هم الصيغة المثلى للمواطن الصالح، لهم نزواتهم وشطحاتهم وجنوحهم، لكن هذا لا يؤثر على التوصيف العام لهم، لأن الكاتب يدخل إلى ذواتهم من باب النظرة الإنسانية الشاملة.

نايف السعيد أكثر أشخاص الرواية حضوراً في مدارات الأحداث، وهو ابن الطبقة الفقيرة التي اضطرت أسرته أن توظف إحدى بناتها كخادمة حتى يستطيع التعلم ويحصل على الشهادة، استحوذ على معظم عتبات الرواية بصفته مراقب عمال، وهو هنا يمثل صلة الوصل بين العمال والاداريين، يمثل دور الرجل الجدي المتزن المواظب على عمله والمتعطش للمستقبل وفق رؤيته العقائدية لدور الطبقة العاملة وأحقيتها في المجتمع، وحوله الكثير من الشخصيات المؤثرة في الحدث، كالطاقم السوفييتي المولج إليه مهمة القيام بالدراسة والإشراف على بناء السد والمهندسين والفنيين السوريين والعمال وهم الشريحة الأكبر حظاً في تناول سيرهم ومصائرهم، فضلا عن الأشخاص الجانبيين كعالم الآثار والرسام الفرنسي (أنطونيو) أو مساعد الشرطة وزوجة (مهيار العبيدي) وحماته.

يطعّم الكاتب حدث حكايته الأساسية (المتعلقة بقصة بناء السد) بحكاية جانبية تحاذيها في المسار وتوازيها في الأهمية، تحمل طابع التشويق والجذب، حكاية بوليسية مكتملة الأركان، قوامها العثور على جثة فتاة عارية في ماء النهر، استحوذت عل تفكير معظم شخوص الرواية واستأثرت بأهمية القارئ فيضاً من الوقت، وسارت مع الأحداث الرئيسية جنباً إلى جنب حتى نهاية الرواية، مما خلقت لدى القارئ حافزاً نهماً لاستقصاء تفاصيلها، والسير في ركب الحكاية متلهفاً لمعرفة النتيجة.

مسارات الروي صعدت تدريجياً من زمن التحضير للبناء وصولاً إلى الانتهاء وتدشين هذا الإنجاز الباهر لسدٍّ سيغير وجه المنطقة، هي قصة ترويض النهر وتطويعه (الانصياع) وقد استطاع الكاتب أن ينقلنا إلى أجواء العمل وتفاصيلها وتفسيراتها العلمية والصعوبات التي واجهت فريق العمل وطريقة التغلب عليها ودور كل شخصية في هذا المشروع، مركزاً على الجدية والتفاني والصدقيّة المخلصة في قلوب الجميع لإنجاز هذه المهمة الوطنية، كأنك تقرأ تقريراً مفصلاً لمراحل إنشاء هذا المشروع، تارة عبر التقارير والمحاضرات الخاصة بالعمل، وتارة أخرى عبر تصوير المشاهد باللغة الروائية عندما تتولى الحدث الشخصيات الروائية، ويعرج السرد إلى تفاصيل جانبية أخرى تكمل صورة المشهد الروائي العام.

أسلوب الرواية لم يخرج عن النمط الكلاسيكي في طريقة البناء الروائي، وقد اعتمد الكاتب على الراوي الخارجي (كلي المعرفة) المتنقل بين الشخوص والأماكن، متحدثاً عنهم ومستبطناً لأفكارهم، ناهجاً نهج أسلوب السرد الصاعد المتنامي مع سيرورة الأحداث، متطرقاً بين الفينة والأخرى إلى سيرة بعض الأشخاص كسرد استرجاعي، فيما تنسلّ بعض الحكايات الجانبية بطريقة السرد المرسل (حكاية داخل الحكاية)، وتناوبت الحوارات بين الديالوج والمنولوج، وقد حضر السرد التقريري بكثرة، سيما حين يتولى شرح العمليات الفنية المتعلقة ببناء السد أو باستظهار مكنونات النهر وأسراره، أو حتى بترجمة المنولوجات المراودة لشخصية (نايف السعيد) وما يعتمر في خلجاته من أفكار متلاطمة، وغلب على معظمها صفة التنظير والصنعة تماشياً مع الفكر الإيديولوجي السائد في تلك الفترة الزمنية، مما جعلها غير مقنعة لأن الكاتب أوصلها بطريقة الوجبة الجاهزة، لذلك بدت بعض الشخصيات مصطنعة اصطناعاً لإكمال الحدث وتلوين المشهد الروائي، كالشاعر (ضيف الله) البدوي، الذي لا يعرف القراءة والكتابة وينظم شعراً باللغة الفصحى موزوناً ومقفى ومكتمل البناء اللغوي بألفاظ غريبة على البيئة البدوية، ولو أن الكاتب جعله شاعراً بدوياً وينظم الشعر النبطي لكان أكثر إقناعاً، كذلك ما قاله النهر، فقد انتهج الكاتب نهج الفانتازيا عندما جعل غير العاقل يعبر عن مكنوناته باستفاضة وإسهاب،  ولو جاءت هذه التداعيات لمكنونات النهر عبر أحد الأشخاص العارفين، كما فعل في النهاية مع (مهيار العبيد) لبقيت الرواية محافظة على نهجها وطرق إقناعها الأساسية.

من الجميل أن يتصدى الأدباء  للحديث عن المشاريع الوطنية، خاصة تلك المشاريع الكبرى كمشروع سد الفرات، واستطاع الكاتب في هذا العمل أن يلم إلماماً شاملاً بالأمور الفنية والعلمية المتعلقة بمراحل البناء، كأننا أمام خبير أو عالم يكتب قصته المرتكزة على حصيلته العلمية، فجاءت الرواية كأنها تاريخ آخر للحدث وصل إلينا محمولاً على جناح المتعة، ومطعماً بنكهة الحكايات الواقعية لأناس طيبين ظرفاء ولدوا من رحم الحكاية، وحبوا وشبّوا في مداراتها، وعلى سواعدهم ارتقت مثل تلك الصروح العظيمة، كما يحسب له أيضاً تلك الإشادة باليد العاملة الوطنية وتبجيلها ورفع شأنها في كل عتبات الرواية، وهو المنحاز إلى مجتمعه والمرتبط بمعاناته ومصيره كأنه يطبق مقولة الكاتب الإنكليزي (سنو): (تتنفس الرواية بملء الحرية في حالة واحدة فقط : عندما تمتلك جذوراً في المجتمع).

العدد 1102 - 03/4/2024