فضاءات ضيقة.. ثورة أكتوبر وحكم التاريخ
د. عاطف البطرس:
شهد تاريخ العالم عدة ثورات اجتماعية من أجل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، منها ما أخفق ومنها ما عاش فترات زمنية قليلة، إلى أن وصلنا إلى أهم ثورة في تاريخ البشرية، وهي الثورة البرجوازية التي قضت على النظام الإقطاعي وأنشأت الدول، ووضعت البشرية أمام منعطف تاريخي يحمل الكثير من الإنجازات والأكثر من الأخطار والدمار واستغلال الشعوب وهيمنة الأقوياء.
أما ثورة أكتوبر فهي من أبرز وأهم الثورات الظافرة بعد الثورات البرجوازية، وقد عاشت أكثر من 70 عاماً. وأهميتها لا تقاس بعمرها الزمني وإنما بما حملته للبشرية ولشعوبها من إنجازات لم يعرفها التاريخ من قبل.
فقد كانت ثورة أكتوبر أول ضربة وجِّهت للنظام الرأسمالي العالمي في أضعف حلقاته: روسيا القيصرية، على خلاف توقعات المنظرين في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، وفي مقدمتهم كارل ماركس المفكر والفيلسوف والثوري.
أحدثت الثورة بنجاحها في بلد يتسم بعلاقات اقتصادية شبه إقطاعية خرقاً نظرياً ومعرفياً مازالت نتائجه مجال بحث ودراسة على المستويين النظري والعملي حتى يومنا هذا.
حققت الثورة منذ قيامها أقوى تحالف عرفه التاريخ بين العمال والفلاحين على أسس مصلحية ووحدة نظرية تستند إلى نظرية علمية فلسفية في فهم التاريخ وحركة الواقع، ساعد قيادتها على تخطي الصعاب والنجاح النسبي في مواجهة المهام التي طرحت أمامها وأمام البشرية، لأول مرة عبر تاريخها الطويل، طرق الانتقال الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي الذي بخطوطه العامة يهدف إلى إزالة استغلال طبقة لطبقة، ويحقق توزيع عادل للثروات، ويساعد على تقدم القوى المنتجة التي ستولد علاقات إنتاجية جديدة تسعف المجتمع في التطور والتقدم، وبالتالي الانتقال بالبشرية إلى تحقيق حلمها في سلم عالمي يضمن حق الدول والشعوب في اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن مآثر ثورة أكتوبر وإنجازاتها: انتصارها في الحرب الوطنية العظمى التي كُلّلت بهزيمة النازية والفاشية، ذلك الانتصار التاريخي الذي جعل من الاتحاد السوفييتي طليعة في بلدان العالم، وحصناً للسلم العالمي، ومساعداً أميناً لحركات التحرر الوطني في العالم.
عجز الثورة أو قصورها عن حل بعض المشاكل التي واجهتها، كضعف وتائر التقدم الصناعي وانخراطها في سباق التسلح، إضافة إلى الموقف المعادي منها من قبل الدول الرأسمالية، وضعف قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي وقصوره عن متابعة المنجزات العلمية والفكرية، إذا استثنينا غزو الفضاء وإنتاج الأسلحة، فقد تخلفت الدولة الفتية عن التطور المتسارع في العالم، ذلك كله أوجد أمامها صعوبات اقتصادية واجتماعية ومشاكل قومية وتضخماًُ في الجهاز البيروقراطي، فإذا أضفنا إلى ذلك العوامل الخارجية التي ما انفكت تتضافر وتتآزر وتخطط للقضاء على هذه الثورة بوصفها حركة تهدد مستقبل الرأسمال العالمي، نصل إلى أن تضافر العوامل الداخلية والخارجية، والقصور في المواجهة، أدى إلى القضاء على التجربة وتفكك دولتها (الاتحاد السوفييتي) الذي نشأ على أسس ثورة أكتوبر ومبادئها.
السؤال: هل انتهى حلم البشرية بدولة اشتراكية عظمى تكون مركز قيادة وإشعاع لثورات اشتراكية متعددة في دول مختلفة وفق خصائص شعوبها وتطور قواها المنتجة؟
هل كانت التجربة بكل تفاصيلها التاريخية أو في بعضها خطأ تاريخياً؟ ما هي أسباب التصدع والانهيار لدولة عظمى تحتل مساحتها سدس الكرة الأرضية؟ هل المشكلة في النظرية أم في التطبيق؟ هل هي في الحياة السياسية التي حجبت التعددية واحتكر الحزب الواحد فيها مسؤولية قيادة البلاد؟
تلك أسئلة تبقى مجال بحث وتقصٍ لاستخلاص العبر والنتائج..
ما هو محسوم وجليّ أن النظام الرأسمالي العالمي بصيغته المتوحشة ليس نهاية التاريخ، وأن العقل البشري وتجارب الشعوب قادرة على إيجاد الطرق التي تقضي على الاستغلال ونهب البلاد المستضعفة وبناء عالم يسوده العدل والسلام والرفاهية.