العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني

يونس صالح:

بادئ ذي بدئ، يتعين القول: إن التقابل بين الدولة والمجتمع المدني بوصفهما كيانين منفصلين، هو تقابل خطر على الدولة والمجتمع سواء بسواء، إذ إنه لا يمكن دراسة المجتمع المدني بمعزل عن الدولة وتطورها ودستورها وقوانينها، ذلك لأن ظهور الدولة ونشأتها بالمعنى الحديث وتضخم أجهزتها الإدارية وتعدد مسؤولياتها وتنوع بيروقراطيتها قد ترك تأثيره على المجتمع المدني.

إن إشكالية الدولة وأسئلتها قد تكون من بين أكثر الإشكاليات تعقيداً والتباساً في الخطاب السياسي العربي المعاصر، خاصة أن أغلب الدول العربية شهدت تضخماً واضحاً لأجهزة السلطة الأمنية وانحساراً لمؤسسات المجتمع المدني، فإلى أية درجة يستطيع المرء أن يلقي بكل اللوم على الاستبداد السياسي لتفسير هذه الظاهرة؟ وإلى أية درجة يمكن الادعاء بعدم وجود مجال لعمل اجتماعي وثقافي؟ وهل يجب أن يسبق المجتمع المدني وجود الدولة؟ أم أن وجود الدولة هو الذي يؤسس لقيام هذا المجتمع؟

يعتبر الحكم الرشيد أحد توجهات العصر في عالم السياسة والاقتصاد، وقد اكتسب شرعية متجددة في حقول علم الاجتماع والسياسة مع نضج ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، وأصبح طموحاً وشاغلاً إنسانياً على الصعيد العالمي، فتوافرت في هذا المجال اقتراحات متعددة لمعايير الحكم الصالح تقاس نماذج الحكم على سلّم قيمها.

كما أصبح من الشائع مسارعة أنظمة عديدة إلى إعلان مقاربة ذلك الأنموذج وسيادة القانون والفاعلية والإنصاف، ومن المؤكد أولاً أن توفير الركائز السابقة لا تكتمل إلا بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وفسح المجال أمامها لمراقبة أجهزة الحكم ومؤسساته وتقويمها ومحاسبتها، وثانياً: أن الحكم الرشيد لا يعني إضعاف دور الدولة، بل يعني تغيير دورها، خصوصاً في بلداننا. فعندما يسعى منظرو الليبرالية المتوحشة لإضعاف دور الدولة بدعوى تقوية السوق وإطلاق آلياته الفعالة، تتحول الليبرالية إلى عائق أمام الديمقراطية، ليس فقط بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب، وإنما أكثر لأنها تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل الدولة الممثلة لعموم الشعب وإرادته العامة.

وفي الواقع لا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد/ المواطن في هذا المجتمع. وإذا كان المجتمع المدني في فلسفة التنوير هو مصنع المصالح المادية ومجتمع المصالح الخاصة، فإن الأفراد/ المواطنين في الدولة هم من يعنيهم بالأساس تحقيق تلك المصالح.

إن التنكر للدولة باسم المجتمع المدني قد يصب في مصلحة الأنشطة الدولية المصاحبة للتحول إلى اقتصاديات السوق عالمياً، وما ينتج عن ذلك من انسحاب تدريجي للدولة من دورها الرعائي والخدماتي لمصلحة الشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي فالقبول بإحلال المجتمع المدني كبديل عن الدولة ليس إلا وهماً جديداً، لا يختلف في جوهره عن الوهم السابق الذي سيطر على بعض النخب العربية بعد الاستقلال والمتمثل بالتعويل على التنمية الوطنية من خلال فصل القضية الاجتماعية عن القضية الوطنية.

من جهة أخرى، من الخطأ النظر إلى الدولة بمنطق التماهي أو المماثلة مع الحكومة أو مع غيرها من المؤسسات. إن التمييز بين الدولة وغيرها من الأجهزة المندرجة في إطارها، أمر غاية في الأهمية، لفهم مضمون الدولة ومثلها من جهة، ولترشيد الفعل السياسي والمدني من جهة أخرى، فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، إذ تنتصب الدولة في المقام الأول وتتصدر غيرها من الإعاقات وهي كثيرة في منطقتنا العربية.

ومن اللافت للنظر أن الدولة التي دخلت مرحلة الأفول في الغرب، لا تزال مطلباً ضرورياً في الحالة العربية، بوصفها مرجعاً وخياراً للعمل المجتمعي المؤسسي، وتقع على عاتقها مهمة بناء الهوية المجتمعية القوية في بلداننا ذات التكوينات الهشة، التي تتقاذفها مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية وإثنية… بيد أن السلطات_ وهي إحدى مؤسسات الدولة_ إن استمرت رهينة لفكرة الحجر على المجتمع ومنعه من التعبير عن نفسه، فمن البديهي عدم حصول أي تقدم في دور المجتمع المدني، وإبقاء الحال على ما هو عليه، وهذا الأمر يبدو ظاهراً وواضحاً في كثير من البلدان العربية.

إن شراكة المجتمع المدني مع الحكومات تحتاج باستمرار إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر ببعض جوانب العلاقة، وما اعتراها في السابق من سلبيات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لتحديد ما يراد لها في الحاضر والمستقبل.

إن تجسير العلاقة بين السلطات والمجتمعات المدنية المحلية هو خطوة من خطوات الإصلاح المنشود، وتبدأ عملية التجسير بالاعتراف بحق هذه المجتمعات في الوجود، من خلال إطلاق حرية تكوين الجمعيات والأحزاب والنقابات وتحرير وسائل الإعلام من كل أشكال الاحتكار، ثم فتح الحوار مع ممثلي المجتمع المدني الشرعيين، وإشراكهم في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وصياغة السياسات العامة.

ولكن ثمة شروطاً حاسمةً لعلاقة صحية بين الدولة والمجتمع المدني: أولها أن المجتمع المدني لا ينشأ من ضعف الدولة أو تراخيها أو استقالتها أو تفسخها. المجتمع المدني في تحديده الحديث، هو وليد قوة الدولة من أجل الموازنة معها، ومنع التسلط، والرقابة، وتحديد ميادين نشاط السلطات وصلاحياتها. وثانيها: المجتمع المدني لا يمكن أن يحل محل الدولة، بفعل اختلاف الوظائف جذرياً. وثالثها: إن افتراس الدولة للمجتمع يؤدي إلى دولة تسلطية، كما أن تحلل الدولة يؤدي إلى الفوضى.

وهكذا لا يمكن من مآل للدعوة إلى الحد من الدولة سوى زوال الدولة. يقال ذلك ويفعل باسم النضال الديمقراطي والمدني من دون الانتباه إلى أن الدولة الوطنية القوية والراسخة هي البيئة السياسية الحاضنة للتطور الديمقراطي والمدني، ومن دون الانتباه إلى الخلط الفادح الذي نقع فيه بين معنى الدولة ومعنى النظام السياسي.

إن وضع قواعد واضحة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في البلدان العربية ممكن، إذا توافرت الإرادة السياسية، ولهذا يجب طرح العلاقة الجدلية بين سلطة الدولة والمجتمع المدني من خلال رؤية جديدة لا تتأثر بسلبيات الماضي وتكون مجرد رد فعل لتاريخ تسلط الدولة ومصادرتها لنشاط المجتمع المدني وقواه الحية. وتلك الرؤية الجديدة تستدعي طرح العلاقة الجدلية بين السلطة والمجتمع المدني من خلال تصور واضح لطبيعة الدولة ومهامها. إذ ليس هناك أي تعارض بين دولة الحق والقانون ومؤسسات المجتمع المدني، بل إن دور كل منهما يكمل الآخر. فالدولة القانونية لا تلغي مؤسسات المجتمع المستقلة عنها، إنما تساعد على تفتحتها، ومؤسسات المجتمع المدني تساعد الدولة في القيام بمهماتها، لأنه هو الإطار السليم لتطور البنية الاجتماعية الدينامية.

ولاشك أننا في سباق مع الزمن، والخيارات باتت أمامنا محدودة، والمطلوب من الجميع السرعة في اتخاذ قرار شجاع ووحيد وهو خيار الدولة القوية والعادلة، فهي القادرة على حماية مواطنيها والحفاظ على كرامتهم وممارسة حقوقهم وحرياتهم الأساسية في ظل سيادة القانون، بحيث يخضع له الحاكم والفرد على حد سواء، وينعم الجميع بعدالته إذا ما روعيت المناهج السليمة والموضوعية في فرض أحكامه.

وفي الحالة العربية، فإن الأولوية تقتضي إعادة السياسة إلى المجتمع، بما يضمن ويمكّن الجمهور العام وقواه الحية من الدخول في الحوار، وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، بصبر وروية، والابتعاد عن الشعارات الطنانة، كي نقترب من جوهر السياسة القائم على الاستعداد للتفاعل والتبادل والتسويات، من خلال عقد اجتماعي مبني على إرادة جماعية عليا، على جميع أفراد المجتمع احترامها وقبولها والانصياع لها، ويقتضي ذلك الموافقة الضمنية والصريحة على كل بنود وعناصر العقد الاجتماعي المبرم الذي يضمن الحقوق المدنية والواجبات مع احترام حقوق الآخرين.

وفي إطار الإصلاحات أيضاً يتعين تطوير نظام فصل السلطات ومراقبة بعضها بعضاً، والحد من تضخم صلاحيات السلطات التنفيذية، وتطوير الجهاز التشريعي وضمان استقلال القضاء، وعدم تغول إحدى السلطات على الأخرى.

وهكذا فإن خروج البلدان العربية من تأخرها الحاضر لا يتحقق دون إيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر، تستطيع فيه جميع مكونات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته، نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري دون اللجوء إلى قعقعة السلاح والمهاترات الكلامية.

ولا شك في أن عوامل التطور والتغيير السريع والثورة التكنولوجية، وبالتالي توافر الاتصالات السريعة والمعلومات والإعلام بأشكاله كافة، عملت على إحداث تغيير كبير في حياة الناس خاصة جيل الشباب، الذي أصبح أكثر وعياً وعلماً وله مطالب لا يستطيع أحد أن يوقفه عن المطالبة بها، فضلاً عن خروج النساء لطلب العلم والعمل وازدياد مستوى مشاركتهن في مؤسسات المجتمع المدني بكل أشكالها، نتيجة لكفاحهن ولتقلص تأثير المكونات الحضارية والثقافية التي كانت تعيق مساهمتهن في التنمية، وأثر ذلك على النمط الأسري ومستوى وعي أفراده.

وعليه لابد من الحكم الرشيد كمطلب أساسي في إدارة الدولة، بتعزيز الشراكة ما بين القطاعات الثلاثة: العام، والخاص، والمجتمع المدني، والأهم من كل ذلك محاربة الفساد وتنشيط دور المجتمع المدني ليقوم بدوره الرقابي والمساءلة في حالة التقصير أو العبث بالمال العام، وهو يمارس ذلك الدور صوناً للمصلحة العامة.

العدد 1102 - 03/4/2024