ما بعد «ثورات الربيع العربي»… إدارة التناقضات الداخلية!
بعد ما يقارب عامين على »ثورات الربيع العربي« في مصر وتونس وليبيا واليمن، تبدو إمكانية التغيير معقدة إلى حد ما، وليس في الأفق ما يشير إلى توقف هذه الثورات قبل أن ترسخ نتائج إيجابية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد باتت الحركات الشبابية- الجماهيرية اليوم القلب النابض للبلدان العربية، ومحط أنظار العالم كله.
أما القوى التي صعدت إلى السلطة في زمن الثورات فلم تعد قادرة على الاستئثار بها كما كانت في السابق، بالاستناد إلى حالة الطوارئ وممارسة القمع والإقصاء والاعتقال ضد الشعوب، لذا تعيش الثورات العربية اليوم مرحلة بالغة الخطورة تتميز بكثير من التباينات بين المكونات السياسية التي شاركت فيها. فالقوى التقليدية »الإسلام السياسي« تريد إبقاء النظام على حاله بعد إجراء تعديلات طفيفة في قياداته وتوجهاته السياسية. أما القوى الشبابية الليبرالية والعلمانية فتطالب بتغيير جذري في بنية النظام، بما يعزز الوحدة الوطنية على أسس جديدة، ويمنع التدخلات الخارجية، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية وتعددية سلمية تحترم الحريات العامة والفردية، وتنشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، وتعيد للأمة العربية مكانها الفاعل في النظام العالمي الجديد الأكثر عدلاً، كقوة بشرية واقتصادية تمتلك ثروات طبيعية تتنافس الدول الكبرى للسيطرة عليها.
ضبابية موقف القوى الدينية المحافظة من المشروع الصهيوني
تطول التحولات الاستراتيجية التي فرضتها الثورات الشعبية العربية حاضر الأمة العربية ومستقبلها كبلدان مستقلة وكنظام إقليمي قيد التشكل. لهذا تضغط قوى التغيير الجذري »العلمانية والديمقراطية واليسارية« لفرض رقابة شعبية دائمة على القوى التقليدية المحافظة التي تسلمت دفة السلطة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، بهدف حماية الأهداف التي قامت من أجلها الثورات الشعبية، وفي طليعتها إقامة نظم ديمقراطية مدنية تعددية، كما تعمل هذه القوى على بلورة برامج وسياسات وطنية لمواجهة مخاطر الثورة المضادة، كما هو الحال في مصر في سياق وحدة الأحزاب والفصائل الليبرالية من جهة، ووحدة الفصائل والأحزاب الناصرية واليسارية من جهة أخرى، وهي تطالب بمواقف جذرية واضحة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وبالتالي إرغامه على وقف التوسع الاستيطاني، كما تصر على فك التبعية للغرب الكولونيالي الذي يحاول العودة إلى المنطقة العربية ك»منقذ لشعوبها« من حكام كانوا أداة طيّعة بيده منذ عقود طويلة.
ومن الملاحظ أن القوى التقليدية المحافظة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن لم تتخذ حتى الآن موقف الإدانة الفعلية لسياسة إسرائيل التي تنفذ مشروعاً متكاملاً لتهويد القدس، وإقامة »دولة يهود العالم« على أرض فلسطين. وقد تمنعت إسرائيل دوماً عن إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة التي ضمنتها له الشرعية الدولية. ورغم موافقة أكثر من مئة وثلاثين دولة على قبول عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، تهدد الولايات المتحدة باستخدام حق النقض »الفيتو« لمنع قيامها. وتبدو إسرائيل وحلفاؤها على قناعة بأن القوى التقليدية المحافظة التي وصلت إلى السلطة مازالت قادرة على إبقاء سياسة مصر الخارجية دون تعديل جذري، بحيث تبقى اتفاقيات كامب ديفيد تكبل إرادة مصر والمصريين. علماً أن استمرار الانحياز الأمريكي الأعمى إلى جانب إسرائيل يحرج قادة التيار الديني أمام جماهيره. في الوقت عينه يصرّ شباب الثورة وتياراتها العلمانية والليبرالية على إبراز الوجه الحقيقي لثورة 25 كانون الثاني ،2011 مما اضطر الخارجية المصرية إلى الإعلان مراراً أن اتفاقيات كامب ديفيد »ليست مقدسة«.
ولم يعد خافياً أن خيارات القوى التقليدية المحافظة محدودة للغاية، وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية منها:
* ارتباك على صعيد دينامية التغيير:
– نجحت ثورات الربيع العربي الشبابية في استقطاب الرأي العام القومي والأممي، وإسقاط بعض القادة العرب خلال فترة زمنية قصيرة. ومن أبرز أهدافها المعلنة: إسقاط الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، وإقامة أنظمة ديمقراطية وعدالة اجتماعية مكانها، ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ومنع إسرائيل من تهويد القدس وبناء المستوطنات وجدران الفصل العنصري، وفك التبعية للخارج، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي بالشؤون العربية الداخلية. وأدركت قوى التغيير الشبابية العربية أن فشلها في تحقيق الأهداف الرئيسية للتغيير سيفجر سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بسبب الفساد، وكثافة الأزمات المعيشية التي تصيب غالبية المواطنين العرب، وخصوصاً جيل الشباب منهم. ولن يكتب للثورات أي نجاح ما لم توجه المعركة ضد أنظمتها الاستبدادية من جهة، وإسرائيل التي تستبيح اليوم جميع المحرمات في فلسطين من جهة أخرى.
– مازالت التيارات الدينية التي وصلت إلى السلطة بفضل الثورات الشبابية العربية تتحاشى إعلان موقف واضح وصريح ضد إسرائيل، التي تقوم يومياً بتدنيس المقدسات الدينية وسط صمت شبه تام للقوى التي صعدت إلى السلطة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، وهو موقف بائس وملتبس رافق صعود القوى التقليدية المحافظة التي بدأت حواراً علنياً مع الغرب والولايات المتحدة، ولعلهم تلقوا تطمينات حول حق إسرائيل بالبقاء، واستعداد القوى التقليدية المحافظة للمشاركة في »مشروع الشرق الأوسط الجديد« وفق صيغة توافقية تطمئن جميع أطراف الصراع في الشرق الأوسط!
– يبدو أن نسبة كبيرة من مثقفي التيارات السلفية التي وقفت سابقاً إلى جانب الجماهير الشعبية في مواجهة أنظمة الاستبداد والفساد، ودخل الألوف منهم في سجونها، قد تناست شعار تحرير فلسطين، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل المتاحة والمعترف بها دولياً، وفي مقدمتها المقاومة بكل أشكالها، مما يطرح تساؤلات عدة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت القوى التقليدية المحافظة مؤخراً إلى التراجع عن شعارات المواجهة مع إسرائيل ومن يدعمها، والقبول بفتح باب المفاوضات رغم رفض إسرائيل لها، وذلك من باب التودد إلى الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي تصر الأحزاب والقوى العلمانية والليبرالية الشبابية على التغيير الجذري والشامل في الوطن العربي مهما بلغت التضحيات، تبدو مواقف القوى الدينية المحافظة التي تسلمت دفة السلطة في مصر وتونس وليبيا واليمن مخيبة لآمال الشارع العربي، كما تبدو مواقف بعض »قوى المعارضة« المطالبة ب»التدخل الخارجي« في بلدانها مثيرة للسخرية، مما يثبت وجود إرباك واضح لدى بعض النخب الدينية والتقليدية المحافظة.
احتدام الصراع بين ثقافة العقل وثقافة النقل
يمكن توصيف دور الثقافة العربية في التغيير الديمقراطي المنشود من خلال رؤية مستقبلية ترسم جدلية التباين الصارخ الموجود الآن داخل المجتمعات العربية، وهي تندرج ضمن مشروعين ثقافيين:
الأول: تدعمه قوى تقليدية محافظة على المستوى السياسي، وسلفية على المستوى الثقافي، برغم تقاطعهما في مواقف متباينة، على تقديس التاريخ الماضوي العربي في عصر ازدهاره، والعمل على إحيائه، لكي يبقى تجديد الثقافة العربية حلماً غير قابل للتحقيق، ويسير في الاتجاه المعاكس للثقافات العالمية وتلاقحها.
الثاني: تدعمه قوى علمانية وليبرالية شبابية متنورة، وهي تحترم التاريخ والتراث، وتدعو إلى استيعابه والمراكمة عليه، لبناء حاضر ومستقبل عقلاني جديد يعطي العرب موقعاً أكثر تأثيراً وفعالية في الثقافة الكونية المعاصرة.
ولم تعد الدول الكبرى، ومعها الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، قادرة على فرض المزيد من التجهيل على شعوبها، كما أن ميزان القوى على المستوى الإقليمي والعالمي يساعد على تطوير المسار التصاعدي لثورات الربيع العربي. ومازال الشباب الثائر يملأ ميادين التحرير وساحات الحرية، وهم مصرّون على بناء أنظمة عربية ديمقراطية وتعددية مدنية، وتحرير الأراضي المحتلة، وفك قيود التبعية للخارج، رغم ضبابية المرحلة الراهنة، فإن زمن الثورات يؤسس لوحدة وطنية وقومية صلبة، ويمهد لولادة شبكة أمان عربية جامعة للوقوف في وجه عولمة متوحشة.. فهناك بالمقابل عولمة إنسانية أكثر عدلاً لاتزال في طور التشكل، عمادها قوى وأحزاب ودول ترفض استخدام القوة لحل النزاعات، وأداتها الأمم المتحدة بعد تحريرها من الهيمنة الأمريكية، وتطوير مؤسساتها.. لذلك تخوض »الثورات العربية« معركة مركبة لتصفية الاستبداد الداخلي، وفك التبعية للخارج.. ولم تعد الدول الكبرى وأنظمة الاستبداد والفساد العربية قادرة على تعطيل المسار التصاعدي لقوى التغيير التي ترفض الهيمنة والتدخلات الخارجية في شؤون دولها، وتضغط على السلطات الجديدة لانتزاع حقوقها في المشاركة الفعلية بإدارة البلاد والعيش بكرامة.