نتيجة إيجابية غير متوقعة للأزمة السورية
ليس من باب تجميل الواقع المزري، ولا من باب فتح كوة مضيئة في الظلمة التي تحيق بنا، الكلام عن تغييرات إيجابية طالت الشعب السوري بفئاته كافة، وربما ستشكل أرضية جيدة لسورية الجديدة التي طالما نادينا بها. وقد تكون ملامح طائر الفينيق الذي قيل إن احتراقه الحالي هو مقدمة لانبعاثه بشكل أزهى وأكثر عنفواناً.
لم يتوانَ الفنانون وجمهرة المثقفين يوماً عن تقديم ما تجود به قريحتهم من إبداعات، سواء المطبوعة منها أم التي تقدم على خشبة المسارح وقاعات دار الأوبرا وصالات السينما وكذلك صالات الفن التشكيلي وملتقياته. لكنها لم تكن تلقى الإقبال الذي يتيح لها أن تلعب دوراً فعالاً بالمجتمع لسببين، الأول: لأنها كانت – وما زالت- تفتقر للدعاية اللازمة لتعريف المتلقين على هذه الميادين وتشجيعهم على استكشافها وتذوُّق أطايبها. أما الثاني فهو غياب الخلفية الثقافية عند بعض القراء، الضرورية للتمتع بجماليات العمل واستيعاب رسالته، ومن ثم التمييز بين غث الأعمال وسمينها مما يدفع بعجلة الفن إلى الأمام. وما يزيد المشكلة سوءاً هو موجات الحداثة وما بعد الحداثة التي اعتلى صهوتها الكثير من مبدعينا وانتقوا معهم نخبة من المتلقين القادرين على الركوب مثلهم تاركين البقية الأقل ثقافة لتلاطمهم أمواج الأعمال التجارية.
ومن البديهي أن معالجة السبب الأول، أي المتعلق بالدعاية وجذب الناس إلى الأنشطة الثقافية والإصدارات المختلفة من كتب ودوريات، يؤدي تلقائياً إلى زوال السبب الثاني، لأن دفع الجمهور وخاصة الشباب منهم نحو المنابر الثقافية يؤدي مرة بعد مرة إلى صقل الذائقة الفنية لديهم ويعمل على إدراج الأنشطة الثقافية ضمن الأنشطة التي يرتادها ويزاولها الشباب السوري. لكن من سخرية القدر أن معالجة السبب الأول لم تتم عن طريق الحملات الإعلامية والتسويقية، بل تم بفعل الأزمة الحالية التي أدت إلى إقصاء الأنشطة الأخرى التي كانت تزاحمها، ويأتي في طليعتها المقاهي والمطاعم التي بدأ الناس يعزفون عنها بسبب غلاء الأسعار من جهة، وعدم القدرة على البقاء كثيراً خارج المنزل لأسباب أمنية. لذا بدأت دار الأوبرا بدمشق تشهد إقبالاً منقطع النظير على أنشطتها وحفلاتها التي تتنوع بين العروض المسرحية والحفلات الموسيقية والغنائية، والتي كان جل جمهورها من طلاب المعهد العالي للموسيقا والمسرح، وشريحة تكاد تكون ثابتة من الهواة والمبدعين. وكان الدخول إلى معظم الحفلات يتم بشراء البطاقات قبل العرض بدقائق لعدم وجود إقبال كثيف يؤدي إلى نفاد البطاقات. أما الملاحظ حالياً فهو بيع البطاقات في فترات قياسية وإقبال كثيف من الشباب على مختلف نشاطات الدار والحرص على عدم تفويت أي منها. وحالياً يعدُّ شراء البطاقات قبل يومين من العرض ضرباً من الجنون. قد يقول قائل إن دخول الطلاب الجامعيين إلى حفلات الدار مجاناً هو السبب وراء هذه الظاهرة، لكن ما يدحض هذه الحجة هو أن أسعار البطاقات لم تكن يوماً فوق طاقة الطالب الجامعي، فهو كان يدفع 100 ليرة سورية ثمناً للبطاقة، وبالتالي يبدو السبب المتعلق بالأوضاع الأمنية والمعيشية هو الأكثر ترجيحاً، مع الأخذ بالحسبان أن الأزمة الحالية كشفت عورة الحالة الثقافية المزرية التي نعانيها.
و الحديث عن إقبال الشباب على الوجبات التي تقدمها وزارة الثقافة لا يكتمل دون الحديث عن توجه عدد كبير من السوريين نحو القراءة، بسبب حظر التجول أو الإقامة الجبرية التي فرضتها الأزمة في بعض مراحلها. فبدأت الكتب والروايات تصبح مواضيع نقاشات وجلسات شرائح كثيرة من المجتمع، وهو أمر من شأنه أن ينعش سوق الكتاب، خاصة تلك الكتب التي تصدرها وزارة الثقافة لأنها الوحيدة التي يمكن للمواطن العادي شراءها، مع ارتفاع أسعار الكتب الأخرى إلى مستويات خيالية. وهذا لا ينقص من قدر إصدارات وزارة الثقافة التي لم تبخل يوماً على القراء بالكتب التي تغطي جميع الميادين كتابة وترجمة. لكنها ربما بخلت عليهم بعدد النسخ التي تصدر من كل كتاب، لذا ينبغي النظر بجدية إلى ازدياد عدد القراء كمؤشر لتغيير سياسات النشر والتوزيع المتبعة حالياً.
مهما قيل عن قوة الشعب السوري وقدرته على التعايش مع أزمة بمثل هذا الحجم، ينبغي النظر إلى تغير الحالة الثقافية كدافع للاستمرار بتقديم الأعمال المتنوعة، وتشجيع المبدعين الموجودين بكثرة في سورية على الاستمرار بتقديم أفضل ما لديهم. وربما تكون الأزمة قد قدمت ازدهاراً ثقافياً غير متوقع لكنه جميل وذو دلالة.