الأزمة التركية في منظور الكاريزما الأردوغانية!

ترجع الأزمة السياسية التي تعيشها تركيا الآن، وربما تؤدي إلى انهيار حكومة حزب العدالة والتنمية، وتراجع موقعه في النظام السياسي التركي، وربما أفول دور زعيمه رجب طيب أردوغان، إلى عوامل داخلية وإقليمية، سياسية وثقافية، إلا أن ثمة (مقاربة نفسية) تبقى مهمة، نعزوها إلى ما يمكن تسميته (عقدة أو معضلة الكاريزما) لدى الرجل الذي سعى كثيراً إلى امتلاك سحر (مصطفى كمال بك) واحتلال موقعه، كأب للأتراك، ولكن يبدو أن أحداث ميدان تقسيم قد أصابته بجرح نفسي كبير، حاول الهروب منه دائماً إلى الأمام؛ فتكرر وقوعه في شراك النزعة الأبوية، والعقدة الأتاتوركية، التي قضت على تحالفاته حتى مع شركائه السياسيين، وأقربائه الفكريين من التيارات الإسلامية الأخرى، خصوصاً (فتح جولن) وجماعته. يمتلك أردوغان نوعاً من الكاريزما انبنى على الإنجاز الواقعي، والعطاء السياسي ومراكمة الخبرات الناجحة على الأرض، سواء في قيادة مدينة إسطنبول، أو في قيادة الحزب والوطن التركي، ولم ينبنِ، في المقابل، على السمات الشخصية المرتبط بالكاريزما التقليدية، التي طالما ميزت قادة كباراً في عصور سابقة تمتعوا بجاذبية الحضور كما بسحر الغياب، وبملاحة اللغة، كما بشعبوية الخطاب.

سمات جديدة للكاريزما

والحقيقة أن تلك السمات التي ارتبطت بالكاريزما في القرون السابقة لم تعد مقبولة تماماً في القرن الحالي، ولم تعد ممكنة كذلك في سياق مجتمع ديموقراطي بالمعنى الليبرالي العميق، حيث نمت الذات الفردية وتعملقت إلى حد صار مانعاً للحركة في قطيع خلف قائد يقود الجميع إلى حيث لا يعرفون، على النحو الذي مثّله نابليون ثم ديغول في فرنسا، وبسمارك ثم هتلر في ألمانيا، أو جمال عبد الناصر في مصر، فالناس في جل المجتمعات الحديثة والحرة تطلب نمطاً كريماً من العيش، ربما تقبل معه الحديث عن كبرياء الوطن، وعن روح الأمة ورسالة الشعب، وربما بدت الوجوه فرحة، والأيدي مصفقة، فإذا غاب العيش الكريم لم يعد لمثل ذلك الحديث معنى، وزالت البشاشة من الوجوه وتوقفت الأيدي عن التصفيق.

نعم، تظل المجتمعات في حاجة إلى قيادة جذابة قادرة على دفع حركتها، وتحريك قواها، وتحفيز أحلامها مهما بلغت من تقدم وحداثة، أو حرية وديموقراطية، ولكنها صارت تطلب قيادة على مستواها من النضج، وجاذبية تفي بمتطلباتها في الإقناع، ولذا ربما أمكن الاحتفاء بالكاريزما في القرن الحادي والعشرين، ولكن على المنوال نفسه الذي صاغه مهاتير محمد ولا يزال يمثله رجب طيب أردوغان، فما هي المشكلة إذن؟

تكمن المشكلة في أن الرجل الذي صنع كاريزميته بمعايير القرن الحادي والعشرين، عاد ليطلب كاريزما القرون السابقة عليه، تلك القائمة على الجاذبية والسحر؛ ذلك أن كاريزما الإنجاز مرهقة بمقدار ما هي واقعية، تتطلب عملاً لا ينقطع مصحوباً بشكوك المعارضين واتهامات المنافسين، ومساومات الحزبيين، وهكذا. فإذا تباطأ العمل تآكلت الكاريزما. إنها كاريزما تخلو من ذلك السحر الذي يضفي على السلطة رونقاً، ويمنحها قداسة تعفي صاحبها من المسؤولية، وتريحه من الحساب، فمن من الجماهير يحاسب محبوب الجماهير، ومن من الشعب يراقب ضمير الشعب، ومن من الأمة يراجع روح الأمة؟

شعر أردوغان أخيراً بالإرهاق السياسي الناجم عن كاريزما الإنجاز، وفي المقابل ازداد شعوره بالحاجة إلى كاريزما السحر، وهو أمر تبدى في خطابه السياسي إلى معارضيه منذ أزمة ميدان تقسيم، وانساب في كلماته الحادة التي لامت المحتجين، والتي وشت بنوع من الصدمة والذهول من تحديهم له رغم النجاح الذي تحقق لتركيا في العقد المنقضي من تجربة العدالة والتنمية، على يديه.

كما تبدى في خطابه إلى شركائه الإسلاميين وسلوكه نحوهم، وفي مواقفه من القضاء والشرطة وأركان الدولة التركية عموماً، إذ اعتبر الجميع، بمقدار أو آخر، عملاء ومأجورين يتشاركون مؤامرة على الحزب والدولة، سعياً إلى إهدار النموذج الناجح الذي تمكن من صوغه وقيادته. نعم هناك بعض مشكلات تدور حول العدالة الاجتماعية، وأخرى حول الفساد، ولكنها من وجهة نظره محدودة لا تنال من بهاء التجربة الكبيرة الناضجة ثقافياً، والحيوية سياسياً، الجذابة خارجياً، كما أنها إما طبيعية وإما مؤقتة، فلماذا إذن يتنكر الأتراك له ولحزبه؟ ما أراده أردوغان إذن هو استثمار كاريزمية الإنجاز في الانتقال إلى كاريزمية السحر، أراد أن يصير أباً للأتراك على نحو ما كان أتاتورك، ولكنه هنا الأب الإسلامي لا العلماني، فإذا كان الأتراك منحوا مصطفى بك هذا اللقب، فلماذا يضنون به عليه وهو حفيد السلاطين وسليل الخلفاء؟ وإذا كان مصطفى بك هو من حرّر الأرض التركية، وصاغ الوطن الجديد، فإنه هو من قام بانتشال الوطن من أزماته، وأضاف إلى حرية الأرض حرية القرار، وفرض على الأوروبيين احترامه، وعلى الأميركيين استقلال قراره، فلماذا، مرة أخرى، يضنّون عليه بأبوته لهم؟ بأن يخاطبهم كأبناء، بأن يوبّخهم أحياناً فيقبلون، ويأمرهم أحايين فيستجيبون؟

الشفافية التي تفضح

ما لم يدركه الرجل بعد هو أن العصر غير العصر. انتهى زمن السحر، وصارت الشعوب مريضة بداء الجدل، مهجوسة بفضيلة المكاشفة، مدفوعة برذيلة تأكيد الذات. وما لا يدركه أيضاً أن ما قام به من إنجاز لن يقف حائلاً دون رغبة الناس في حسابه ضمناً وصراحة، بل ربما مثّل حافزاً لتلك الرغبة، دافعاً إليها، فمن كان همّه بالأمس أن يأكل ويشرب، صار اليوم، بعد أن ارتقى عيشه وانتظم دخله، مهجوساً بحريته، فالتنمية تزكّي الطموح، والتحديث ينمّي الشخصية، وهما معاً يدفعان إلى البحث عن ذاتية أرقى، وعن كرامة مصونة.

ما لم يدركه أردوغان إذن أن (الأتراك الجدد) قد يمنحونه شرعية الصندوق مادام قائماً على حياتهم، خادماً لهم، يراكم الإنجازات لأولادهم والثروة لأحفادهم، ولكنهم أبداً لن يمنحوه صكاً أبدياً، يتصور أنه يستحقه، بأبوتهم، بادعاء القدرة على الرؤية الأفضل لمستقبلهم، بحق السيطرة على مصائرهم. باختصار يراه الأتراك اليوم، وبالتأكيد في الغد، مجرد قائد ناجح وليس زعيماً ملهماً، ناهيك عن أن يكون أباً روحياً، ومن ثم يستمر تأييدهم له مادام عطاؤه مستمراً وإلا فهي النهاية. وما عليه أن يدركه حتماً وبالضرورة أن تلك هي شروط القيادة في الزمن الجديد، المليء بأدوات التواصل الاجتماعي حيث الجميع كاتب ومتلقّ، مؤثر ومتأثر، إنه زمن يخلو من السحر والقداسة، يتنكر للملهمين، ولا يتذوق الآباء الروحيين، فإما أن يقبل بهذه الشروط، وإلا فليس أمامه إلا فك العقد مع المتعاقدين، فالأتراك لن يعودوا أبناءً لأحد، حتى لو كان مصطفى بك، أو حتى أحد السلاطين القدماء، وتلك مفارقة التاريخ وحكمة الزمان.

 

عن (السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024