.. وللجهالة مقامات!

شهور عدة مضت على ذلك اليوم المشؤوم. يوم وقع المحذور وألفى نفسه كغيره من أبناء حيّه مضطراً لمغادرة بيته تحت جنح الظلام حاملاً ما خف وزنه وغلا ثمنه خشية وقوع الحي تحت رحمة الظلاميين الذين طالما توعدوا أهله بالويل والثبور عقوبة لهم على مواقفهم الرافضة تحويل حيهم إلى بؤرة لإرهابهم ومنطلقاً لنشاطاتهم الإجرامية.

 مازالت أدق تفاصيل ذلك اليوم تسفع ما تبقى من أشلاء ذاكرته المتناثرة، ما زال مشهد النزوح الكئيب ينهش فؤاده الكليم النازف حرقة وألماً وأسى، ما زالت مرارة لحظات وداعه لبيته عالقة تحت شغاف قلبه، حين راح يلملم عن جدرانه صوراً تحكي ذكريات احتضنها واحتضن حكايات أصحابها، حين جال فيه جولة أخيرة ملقياً على كل ركن من أركانه الحبيبة نظرة مفارق لا يرجو لقاءً آخر، حين كاد يهوي لاثماً ياسمينه ونارنجه ونافورة بحرته، حين صعد إلى عليته الغالية ووقف يغالب دموعه بإزاء مكتبته العزيزة التي شغلت جلّ مساحة جدرانها بمئات الكتب والمخطوطات التي جهد خلال عقود على اقتنائها مفاخراً برصيده الثرّ من أمّاتها ونفيسها ونادرها.  لم يكن يملك الخيار.. الأولوية حتماً للحاجيات الضرورية، ليس ثمة متسع في السيارة المحشوة بفلذات الكبد وحاجياتهم لترف الثقافة والفكر والأدب، على كل حال.. لم تكن مكتبته العزيزة أهمّ ما خلفه في البيت.. لا شك أنه قد أغلق بابه على ما هو أعز وأغلى بكثير.

اليوم.. وأين الأمس من اليوم، تبدو تلك الذكرى أشبه بكابوس بدا بلا نهاية، ثم.. ككل عظائم الأمور، جاء الفرج على حين غرّة من اليأس والقنوط، بهمة وعزيمة حماة الديار ما لبث الحي أن عاد لأحضان أهله وبعث إلى الحياة مجدداً، وها هو اليوم على مرمى حجر من بيته الحبيب يكابد أقسى وأمتع تجربة انتظار عرفها يوماً إلى حين استكمال إجراءات العودة، انتظار لا جدوى معه من حساب الزمن بوحداته المعتادة، فالزمن هنا لا يحسب بالدقائق والثواني بل بعدد خفقات القلوب المنتشية بتخيل لحظة اللقاء.. بعدد رفات العيون الرانية صوب الأفق المفعم بتباشير الأمل.

منذ أن زُف إليه الخبر السعيد.. عقد العزم على ألا يدع الأوهام المفرطة في التفاؤل أن تفسد عليه بهجة العودة، هيأ نفسه عن طيب خاطر لتقبل الأسوأ، كان يدرك يقيناً ما قد ينتظره هناك من خراب وفوضى.. وربما دمار أيضاً لا مشكلة، كل خراب يمكن إصلاحه ما خلا خراب الروح الذي جرب وطأته خلال الشهور الماضية.

دقات ملحّة على زجاج السيارة أيقظته من شروده وقطعت عليه تداعي خواطره المضطربة، سريعاً باشر أحد الجنود بتفتيش السيارة بينما راح آخر يدقق في أوراقه الثبوتية موجهاً إليه بعض الأسئلة المقتضبة، ما لبث أن أعادها إليه مشفوعة ببعض التوصيات والتعليمات إيذاناً بالعبور.

ركن السيارة كيفما اتفق أمام مدخل البيت وترجل منها بحذر متأملاً مظاهر الخراب البادية في أرجاء المكان ثم تابع طريقه صوب البوابة الخارجية، باب الدار مشرع على مصراعيه، وقف أمامه لبرهة.. أخذ نفساً عميقاً  ثم ولج إلى الداخل، بنظرة أولية على المكان اكتشف أن الوضع ليس بالسوء الذي افترضه.. فوضى وحطام وما إلى ذلك، لكن لا دمار بالمعنى الحقيقي للكلمة، الاكتشاف التالي الذي وقع عليه خلال تجواله في غرف البيت كان أكثر مدعاة للأسى.. جميع الأبواب محطمة وغرف البيت خاوية على عروشها.. عملية سطو شاملة منظمة تعرض لها البيت لم ينج منها إلا ما لا يستحق العناء.. لا بأس، لا شيء خارج حدود المتوقع.. هذا دأبهم وتلك عقيدتهم المنحرفة الشاذة عن كل خلق وناموس، عاد إلى صحن الدار.. وقف بالقرب من نافورته الصامتة و بحركة شبه آلية التقط إناءً وراح يغرف من بقية مائها يروي به عطش ياسمينته ونارنجته، متحاشياً النظر صوب الدرج المؤدي إلى عليته العزيزة حيث أودع كنزه الدفين.. متهيباً لحظة مواجهة الفاجعة القابعة على رفوفها الخاوية، أشعل سيجارة ومجّ منها نفساً عميقاً متوسلاً بها بعض الشجاعة لمواجهة مصير معشوقته المحتوم، استجمع ما أمكنه من رباطة جأش وتوجه نحو الدرج.. ارتقاه بحيوية مصطنعة مستعجلاً تجاوز الأمر بأقل قدر ممكن من الألم والأسى.. دفع الباب الموارب بعصبية وولج العلية متلفتاً في أرجائها كالولهان ليصطدم  بمفاجأة ما خطرت له على بال، كما الأطفال.. فرك عينيه براحتي يديه غير مصدق ما يرى.. مكتبته الحبيبة بأسرها في مكانها كأنما لم تمس!، بخلاف بقية أثاث العلية الذي لم ينج من ملاقاة مصير معظم أثاث البيت، بلهفة أمّ، وشوق عاشق راح يتلمس كتبه الحبيبة واحداً تلو الآخر مغالباً عاصفة مشاعر شتى اجتاحت كيانه المأخوذ بوقع المفاجأة المعجزة، فرح.. حبور.. امتنان… ولكن مهلاً.. ثمة شعور آخر ينتابه، شعور غامض عصي على الوصف أخذ يلقي بظلال من الانقباض والتوتر على إحساسه الأولي بالفرح والسرور فيخمد بعضاً من وهجه ! بصعوبة بالغة راح يستجمع شتات مشاعره المضطربة بحثاً عن منبع ذاك الشعور الغريب الذي استبد به على حين غرة في غير الأوان، ثم فجأة وكومضة برق خاطفة طفا على سطح ذاكرته مشهد جلا غموض ما يعتمل في داخله وفسّر سر شعوره الغريب.. مشهد لطالما أثار ألمه وأساه وحنقه ودهشته، أما اليوم فها هو يثير ما هو أعظم من كل ذلك.. إنه مشهد نهر دجلة وقد استحال لون مائه داكناً بفعل مداد آلاف الكتب التي ألقاها المغول فيه يوم احتلالهم بغداد عاصمة الثقافة والفكر في ذاك الزمان.

وتجلت له حقيقة مشاعره ساطعة سطوع شمس رابعة النهار، الأوغاد.. لقد نهبوا متاع البيت بأسره.. حتى الستائر والأحذية لم يوفروها، ولكنهم مع ذلك لم يجشموا أنفسهم عناء سرقة كنزه الأثير.. لا بل لم يكلفوا خاطرهم عناء حرق الكتب أو إتلافها كدأبهم في مثل هذه الحالات، تجاهلوها كأنها لا شيء.. لا شيء على الإطلاق، لبث لبرهة مشدوهاً إزاء هول ما آلت إليه أفكاره السوداء أوكان من الأفضل أن تلقى مكتبته ذات مصير كتب دار الحكمة لكي يشعر بقيمتها؟! ليس الأمر على هذا النحو ومن الحمق حتماً النظر إلى الموضوع بهذه الطريقة،  لكن.. ومع ذلك.. لم يستطع إلا أن يشعر بشيء من التقدير إزاء تصرف جند هولاكو على همجيته.. فهم بتجشمهم عناء نقل آلاف الكتب وإلقائها في دجلة (أياً كان دافعهم) إقرار صريح بأهميتها.. هذه هي الحقيقة.. أما هؤلاء فقبحهم الله من لصوص ما أجهلهم بغثّ الأشياء وثمينها.

 الأوغاد.. كادوا يسرقون فرحته بنجاة كنزه من براثنهم ! لا لن يسمح لهم بذلك.. بل سيجعل من هذه المفارقة حكاية تروى عن طغمة من السفهاء بلغ بهم الجهل مبلغاً وضعهم دون أجهل جهّال التاريخ دناءة ووضاعة، وحسبهم بذاك عاراً ما بعده عار.

بلهفة أمّ.. وشوق عاشق.. راح يلثم كتبه واحداً تلو الآخر.

العدد 1105 - 01/5/2024