المنتوف

من أين أنت آتٍ يا صديقي؟ ما لي أراك منتوف الريش كديك مهزوم؟

++  إننّي قادم لتوّي من المسلخ؟

+ وبدلاً من أن تسلخ شاةً سلخت جلدك؟

++  ليس مسلخ شياه بل هو مسلخ للشباب أمثالي وأمثالك، وسيأتيك الدور إن استطعْتَ الباءةَ؟

+ ماذا تقصد؟ هل تزوّجت؟

++  كنت أظنّني أستطيعها، ولكن ما إن دخلت محرابها حتى وجدتني في مسلخ يسلخون فيه جلود من يتجرّؤون على فتح هذا الصندوق الأبيض للولوج فيه، حتى إذا دخلوه وجدوا أنفسهم سوداً منتوفين من كل شيء كما تراني!

+ كيف حدث هذا؟ قل لي، أخبرني!

++  أرجوك يا صديقي دعني من ذكر التفاصيل؟  فإعادة ما حصل مسلخ آخر، سيزيد نتفي نفسياً هذه المرّة.

+زدتني شوقاً لأعرف تلك التفاصيل، قل بربّك ما الذي حصل لك؟

++  حسناً… كما تعلم يا صديقي، فقد سافرت ولم ينبت الزغب على وجنتي بعد، ولم يشكّل الزمانُ شاربيَّ، قالوا وقلت مع من قال: (اغتربْ تتجدّدْ) فاغتربْتُ ورحْتُ أصلُ الليل بالنهار كي أكسوَ عريي، ففتح الله أمامي بابَ الرزق، أغرفُ منه زادي مجبولاً بعرقي، حتى إذا منّ عليّ الزمانُ بِما يغطي الجسد من ضنك، وما يضيءُ عتمةً سدّت منافذ الشمس، قرّرت العودة من غربةٍ في بلاد الضاد، كانت أشدَّ ضيماً من غربة في بلاد الواق واق.

+ مع ذلك نلت ثمن عرقك، وعدت بأحسن حالٍ!

++   لنقل كذلك ولكن على هونك (جاييك) الكلام…   بعد عودتي واستقرار أمري، وقبل أن أبدأ مشروعاً يشدّ في مستقبل الأيام عضدي، حاصرتني النصائح من كلّ كلٍّ. من والديَّ و بخاصةٍ أمّي، من أخواتي وجيراني وأصدقائي، ممن أعرف ولا أعرف، كلٌّ يقول لي بحاجب يتقوّس، وعينٍ تبحلق: (ما زلت أعزبَ.. عليك إتمام نصف دينك.. أتمم نصف دينك.. ابحث عن بنت الحلال) وتحت القيل والقال رضخت رضوخ من أعيته الحيل، وسلّمت رقبتي لجلاّدٍ اسمه العرس.

+ إيه يا عم، عليك أن تفرح بدل أن تندب ما أنت عليه الآن!

++  على هونك (جاييك) بالحكي… كنت أزرّر عبّي على ما منحني إياه ربّي في ديار الغربة، وانطلقت الألسن مع خطبة العروس الأولى، وصدح قائلٌ يُثنِي على كرمي وشهامتي، ويقول لي: (افتح عبّك، خلّي ربّك يحبّك) وفتحت عبّي طمعاً بحبِّ ربّي، وانفرط عقد المطالب، وراح جنى عمري ينداح، ثوب الخطبة بالآلاف، ومثلها للذهب الهباب، وبعضها لصالة الحفل، وعديدها لبطاقات المدعوّين، آلاف مؤلّفة أخرى للحلوى المعقودة بالسمن البلدي، والمحشوّة بالفستق الحلبي، وآلاف لتزيين العروس، وتصفيف شعرها، وقد رافقتها الأخوات والصديقات، وكنت أكظم الغيظ، وأصبر على وجع السلخ.. مسلّياً نفسي بما سيأتيني من هدايا، حتّى وإن كانت دَيْناً فهي دين مؤجّل.

+ مبروك يا صديقي خطبتك، وعقبى للفرحة التامة.

++  على هونك (جاييك) بالحكي.. فكما كنت  عريس الغفلة، كانت عروسي عروس العجلة، فلم يكد يمضي على خطبتنا شهران، حتى وقع ما لم يكن بالحسبان، ودخل بيننا بوم الشر، يؤازره غراب البين، فطارت العروس من يدي، وانجردَ العريس كجواد امرئ القيس، وانسربت الألوف في بالوعة الغيب، وضاعت بين حقّي وحقّها، وبينَ ما لي وما  لَها، لأعود شبه عارٍ، راكباً بغلاً رماديّاً، باحثاً من جديد عن نصف ديني.

+ وهل وجدت ما تبغي؟

++  ألا تراني منتوفاً؟

+ بلى أراك، وممَّ هذا يا صديقي؟.

++  لأنّني لغبائي دخلت المسلخ ثانية. فكانَ سلخًا هذه المرّة حتى النخاع، أتلفت ما في العبّ، وفوقَ العبِّ، وحول العبّ، لكي أتفاخرَ وأفتحَ عيني أمامَ الناس. وأُغمضهما عنّي كي لا أرى عريي.

+ وبعد ذلك؟

++ تركت عروسي عند أمّي، وخلّفت بيتي ورائي، وتغرّبت من جديد، أبحثُ عن ريشٍ يسترُنِي، وجلدٍ يردُّ هيبتي، فأسَلْتُ عرقي، وأجريت دمي، حتى جمعت من المال ما جمعْتُ، لأعودَ بعد سنوات منفوشَ الريش، مزهواً بعرفٍ أرجوانيٍّ، وذيلٍ طاووسيٍّ… ولكن.. آه يا صديقي حبذا لو تطلقني هنا، مُرني أرجوك بالتوقف عن الحديث!   

+ آمرك بالتوقف! وماذا عن لهفتي لأعرف النهاية؟ فضفض يا صديقي فضفضْ!

++  عدت أخيراً لألقى زوجتي قد نبت ريش جديد لجناحيها من فيض أموالي، فطارَتْ من عشّها لتستقرَّ في أحضانِ عشٍّ آخر. ويا ليتني عرفْتُ صاحب العشّ ومن فضّلَتْه عليّ، وآثرت الفرار معه، لدققتُ عنقَهْ، ومسحْتُ به الأرض.

انتفض الصديق، وارتعشت أجفانه، عضّ على شفته، واستأذن صديقه وخرج، وهو يتلمّس عنقه، وعيناه تبحثان في الأرض عن بقعة نظيفة من الغبار.

العدد 1104 - 24/4/2024