الجزاء على قدر العمل

مات الجنزوري.!

خبر تناقله الناس في حواري عكا، فانتشر كما تنتشر النار في كومة قش يابس. سمعنا الخبر، ولم نكن نعرف من هو الجنزوري أصلاً، ولماذا يُحدِثُ خبر موته كل هذا الصخب.؟

عندما تناهى الخبر إلى مسامعنا، انتابتنا نوبة ذهول.. مات الجنزوري.. تسللنا إلى البيت بهدوء، وأمضينا وقتاً ليس بالقصير ونحن صامتون ننظر في وجوه بعضنا بذهول، عندما انتصب أخي الأكبر وأعلن أن الأمر برمته سينكشف فور عودة جدي من المسجد بعد صلاة العشاء.

ضمنا إليه كما يفعل كلما وجد رغبة في الحديث إلينا، فجلسنا حوله ننتظر ماذا سيقول!

أمسك كأس الشاي، ورشف بتلذذ جرعة كبيرة، ثم مسح لحيته الفضيّة بحبور، وضم عباءته المشمشية..

 من هو الجنزوري يا جدي؟

ألقى بالسبّحة في حضنه وقال وكأنه لم يسمع سؤالنا:

 في الصباح وجدوه ميتاً في آخر الزقاق القريب من السجن، وإلى جانبه صندوقه المهلهل.

تبادلنا نظرات حائرة، لكن جدي تابع يقول:

 الجنزوري الذي لم يجد أحداً من أهل عكا يساعده، عندما انتهت خدمته من عسكر الإنكليز، حمل صندوقاً مهلهلاً ليمسح أحذية الناس كي يجد وسيلة تساعده على البقاء على قيد الحياة، وأن لا يموت جوعاً.

 ياااااااااه.

ومسحة حزن طفت على وجوهنا، لكن جدي استدرك:

 حتى في عمله هذا لم يجد من يمسح حذاءه عنده، أو ينقده قرشاً أبيض. 

تنهد جدي وأردف:

 كان يدفع ثمن خطاياه. ومات دون أن يجد من يشفق عليه.

الجنزوري ومسعود، رجلان عربيان من القرى القريبة من عكا، تطوعا في الجيش الإنكليزي، وكان حظّهما أن كلّفا بالعمل في سلك البوليس حرّاساً في سجن عكا، والسجن يضم إلى جانب المجرمين أولئك الثوار الذين كانوا يتصدّوْن للاحتلال البريطاني.

كان الجنزوري قاسياً لئيماً لا يساعد أحداً من أبناء عكا والقرى المجاورة، بل كان على العكس يشي بهم، ويبلّغ القادة الإنكليز عن كل شيء يسمع به عن تحركاتهم، ولم يكن يسمح لهم بالكتابة أو القراءة أو التدخين، ولا بالتواصل مع أهاليهم سواء في أوقات الزيارة أو بالأمور الخاصة التي كان لو أراد يقدر عليها. وكان يعامل الجميع بقسوة بالغة، على العكس من مسعود الرجل العربي الآخر الذي كان يتناوب الحراسة مع الجنزوري، فقد كان لطيفاً ورقيقاً ويقدّم كل ما يستطيع من مساعدة للمساجين من الثوار، يحمل رسائلهم وأخبارهم إلى أهاليهم، ويأتي لهم بالردود وبأغراض أو طعام يرسله لهم أهلوهم، وكان يتغاضى عن سلوكهم في السجن، ولا يبلّغ أحداً من الضباط الإنكليز عن أي شيء يسمعه منهم ومن خططهم وتحركاتهم داخل السجن، باختصار كان الجميع يحبونه.

تنهد جديّ وقال:

 عندما انتهت مدة خدمتهما مع البوليس الإنكليزي، أخرجوهما، وألقوا بهما في الطريق دون أي اهتمام، ليجد مسعود كل أهل عكا يقفون إلى جانبه ويوفرون له العمل والعيش الكريم.

أما الجنزوري فقد كان يلاقي الكراهية في كل مكان يذهب إليه، ولا أحد من أهل عكا أو من القرى المجاورة يلتفت إليه.

مات الجنزوري منبوذاً فقيراً معدماً، لم يجد أحداً يخرج في جنازته، أو يتأسّف عليه. وعاش مسعود مكرّماً عزيزاً بين أهله.

تنفسنا الصعداء عندما أدركنا تفاصيل الحكاية، لكن جدّي قبل أن يقوم من مجلسه قال:

 من يزرع القمح يحصد قمحاً، ومن يزرع الخيبات يحصد الندم.

العدد 1107 - 22/5/2024