الكلمات «The Words» شغف الخلق ونشوة الإبداع
في البدء كانت الكلمة.. ومن هرم الكلمات تشيد مجد السموات والأرض، فعلت أنفسٌ ودانت أخرى لمغاربها، وارتسم صليب الآلام طريقاً للعاقين والممتحنين.. من الكلمات نهض الثواب والعقاب، وبها ثبت اليقين في القلوب الحية، ومنها التقت الحيوات فُبشر السابقون بالخلاص وختم المارقون بظلامهم.. في دوائر الكلمات احتجبت الحقائق، وبين ثناياها ولد العزم وُحق المبتدأ والمعاد.. وعن الكلمات صدرت الأسماء، فأبصر وسمع من شاء أن يؤمن، فخشع ولهج قلبه بالوجد.. وبالكلمات المفارقة المقاربة استوت المصائر على عروشها وجلت البصائر عن شوائبها، وعبر أهل العرفان صراطهم توهجاً.
وفي مستوى حيواتنا المادية، يثور المتأخرون متنازعين كلمات ليست لهم، فيزداد الثقل ويكثر المنافقون، وتعتم مرايا المغامرين عن رؤية الإلهام الإشراقي. فتكون العجلة والسقوط في فخ الغواية التي تنتحل صفة الإبداع المهاجر بين المسافات والأزمان؛ إبداع مصلوب فوق الأنصاب الجاهلية يذكي الشقاق ويوطن الظلمات.. عبء يقع بالدرجة الأولى على الإرادة الذاتية، التي تقبل الخيار القائم على السرقة أو ترفضه، وتتحمل بالتالي تبعات الاكتمال ضمن هذا الخيار مهما كانت الصعوبات والمشاق. وضمن هذا التوجه يتحرك نبض الفيلم الأمريكي الكلمات (The Words ) للمخرجَيْن بريان كلوغمان ولي سترزال في قالب فني روائي يعرف أزمة القنص الأدبي وفقر الهاجس الإبداعي الخلاق.
تشبه تقنية العمل مفهوم الحلم داخل الحلم، الذي استخدمه كونديرا في روايته (الحياة هي في مكان آخر)، حيث يتبادل الكاتب والبطل لعبة الأدوار بواسطة الاستيلاء على مكتسبٍ لم يحافظ عليه محافظة سليمة. أي أن وصول الهبة الإلهية إلى يد ممتحن لا يعني أبداً أنه اقترب من الحظوة، بل هو المكر المعرفي يتجدد دائماً وأبداً، ولكل حسب استحقاقه ومرتبته. من هنا نتوقف عند صعوبة الاحتفاظ بحلم مراوغ كحلم الكتابة الإبداعية، راود شاباً محدود الآفاق، فكان الفشل نصيبه، لافتقاره إلى شعلة بروميثيوس التي تحيي التجارب الميتة وتمنحها ألق العبور إلى المتلهفين. ولأن شوقه إلى مجد الكلمات الأزلي أحرق باطنه، يسرق رواية كاتب مجهول تعثَّر في أصعب مراحل حياته، ففقد روايته اليتيمة التي خلد فيها توقه إلى الحياة والحب عبر ملحمة الحرب التي هيأت التشتت وسط متاع المثقفين، ثم أعقبها هزيمة الحب أمام موت عابر، لحقه انكسار الكلمة وفشله ككاتب في حيازة مجدها وتوثيقها مجدداً. لتبقى محاولته وثيقة عبور جميلة نحو معانقة الشغف بالكلمة والاحتراق في أتونها.
ينجح الفاشل في دغدغة المجد بواسطة طباعة رواية الآخر ونسبها لنفسه بعد سرقتها، وتدريب يده على معانقة نبض الكلمات واستشعارها بديلاً عن جذوة اللهب الذاتي المفقود. وحين يلتقي الكاتب الأصيل والمزيف يتحقق بينهما حوار خلاق، يختصر الخلاف إلى مسؤولية المزيف إزاء حيازة الكلمة، وبالتالي فتح الخيار أمامه، وتهيئته للثمن المتوجب دفعه عند كل فرصة مهما كانت صغيرة. وهكذا يوسم المزيف كاتباً باختياره، ويخرج لنا كاتب ثالث يجمعهما بين دفتي رواية الكلمات، تاركاً فسحة القفز فوق الاستنتاجات للناقد المحترف، في إشارة إلى تكامل العملية الإبداعية بين الكاتب والناقد والقارئ الذكي.
جميعنا يتوق إلى معاينة نشوة الخلق، سواء من حيث بناء الكلمة وشحنها بعاطفية انفعالية توافقية، أو باستخدام القوة ضد الآخر سحقاً لإرادته، أو الإفراط في طلب الشهوات باعتبارها ملح الحياة وزينتها اللحظية.. وفي كل الاحتمالات هناك اندفاع فردي أهوج نحو عمق اللامرئي، يتطلب استدراكه نضجاً حقيقياً مقترناً بأخلاقيات رفيعة تضمن فرملة العجلات قبل الانغماس في الغواية الأخيرة. مما يعني أن الكلمة هي الختم والخاتم…