«ميلو دراما» مأساة الصديقين «أبو قرعة» و«أبو صلعة»

فرزت الحرب الكونية على سورية مصطلحات ووقائع وأحداثاً جديدة، لا على مكونات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فقط، بل أيضاً، على الحياة المهنية.

(أبو قرعة): موظف مجد في إحدى مؤسسات القطاع العام يبلغ طوله 186 سم ووزنه 123 كغ لقّب بـ (أبي (قرعة)، بسبب حجم رأسه الذي يساوي حجم أكبر بطيخة خضراء عند أبو صطيف بياع البطيخ مقابل ساحة الميسات.. وفي آخر مرة حلق شعره عند الحلاق أخذ منه ألف ليرة سورية عداً ونقداً، لأن هذا الحلاق يتقاضى الأجرة على المساحة لا على الرأس.

أبو صلعة: صديق (أبو قرعة)، وهو أيضاً موظف معه في المؤسسة نفسها، يبلغ طوله نحو 156سم ووزنه نحو 50 كغ، لا يوجد على رأسه ولا شعرة، وعندما سئل عن السبب أجاب إن الحياة والناس تعاونوا عليه ولم يبقوا على رأسه من شعره شيئاً، ولذلك يدلعه زملائه في العمل ويطلقون عليه: لقب أبو صلعة، وهو سعيد بهذا اللقب.

في نقاشهما اليومي الذي يدور عادة في الصباح مع أول فنجان قهوة يبدأ بتقييم الوضع السياسي لا في سورية فقط بل في كل دول العالم ويضعن تصوراتهما وتحليلاتهما ورؤيتهما للمستقبل، أحياناً يتفقان وفي كثير من الأحيان يختلفان، زملاؤهم في العمل اعتادوا على مناقشاتهم وصوتهم العالي، الذي يسمع بوضوح عن بعد.

في يوم من الأيام احتدم النقاش بينهما كالعادة وكان نقاشاً متوتراً، فقد اختلفا على موضوع الدوام في المؤسسة، فأبو صلعة يرى أن الدوام في هذه الفترة يجب أن يكون مقدساً وألا يتهاون فيه: فالحرب شعواء على سورية ويجب علينا أن نكون في العمل ونلتزم أكثر من أيام السلم، وأبو (قرعة) يؤيد أبا صلعة لكن له تحفظ وحيد، فهو يريد أن يؤمَّن للعامل مستلزمات عمله، (يجب أن يؤمن للموظف والعامل مقومات الدوام والعمل لكي يصمد ويعطي ويحسن العطاء).. يتابع أبو قرعة: كيف سألتزم بالدوام دون وجود وسيلة نقل تنقلني إلى عملي….؟!

كيف سأذهب إلى عملي والكهرباء مقطوعة فلا أستطيع أن أحلق ذقني ولا أرتدي لباسي؟

كيف سأكون مرتاحاً في عملي وأولادي يلسعهم البرد، ولا أدري كيف سأدبر لهم المازوت والغاز..؟

وعدنا السيد المدير بأن يضع سيارة الـ((ب.م) تحت تصرفنا..لكن حتى الآن لم يفعل، وإن فعل فمن هو الذي سيستطيع تأمين البنزين لها؟ (وقف أبو قرعة لحظة ثم تابع)….عندما أصل إلى العمل كل يوم أتمنى أن أنام في المكتب، هرباً من طلبات الزوجة والأولاد،…ولأنني لا أريد أن أعود مشياً على الأقدام إلى البيت….

انفعل أبو صلعة من كلام أبو قرعة وقال له: أنت معارض ومندسّ… أنت معارض لكل شيء ولست منطقياً في تحليلك للأمور، ودائماً تنسى أننا في حالة حرب..، لو قرأت التاريخ لعرفت كيف صمدت وصبرت شعوب الاتحاد السوفييتي أيام الحرب العالمية الثانية، وكيف انتصروا… وأضاف: هذه كوبا صامدة منذ أكثر من ستين عاماً، وتعيش ظروف الحصار والمقاطعة ولا تركع للإمبريالية… فلا شيء أغلى من العزة والكرامة الوطنية.

  أجاب أبو قرعة: (لا، أنت الشبيح أنت وأمثالك وصّلتو البلد لهون.. إنتو ما فيكُن حسّ وطني….إنتو اللي نهبتوا وسرقتوا البلد….وتآمرتوا على الدولة وعلى الشعب)!

  أجاب أبو صلعة: (لا، أنتم العملاء… أنتم تتآمرون على الوطن، وتستقوون بالخارج).

نشب عراك بالأيدي بداية الأمر، ثم سرعان ما تطور إلى (مُراقعة)، فنطح أبو قرعة أبا صلعة نطحة فارتجت الصورة أمامه، ونزفت الدماء من وجنتيه، لكنه بادر بقفزة عالية ونطح، أبا قرعة نطحة جعلت الشرر يتطاير من بين عينيه، وبينما راحا يتبادلان الشتائم والضربات.

 دخلت عليهما مديرة الشؤون الإدارية تعاتبهما والغضب والدمع يتطايران من عينيها: ألا تخجلان؟ أنتما أصدقاء وأولاد بلد واحد، فبدل أن تتعاونا وتتساعدا مع الدولة لإنقاذ الوطن، تضيعان الوقت في جدل أدى سابقاً لهزيمة بيزنطة، هيا اعتذرا لا لأنفسكما، بل للوطن، ضمّدا الجراح، وتعالوا لنتعاون على إطفاء الحريق، ثم بعد ذلك نبحث عن سبب الحريق!

 بعد هذا الخطاب المؤثر، دمعت عينا الصديقين الحميمين، وبدأ كل واحد منهما يعتذر من الآخر ويقبل رأسه، فقال الأول: على راسي صلعتك! قال الثاني: على راسي قرعتك!

ملاحظة: عندما بدأ قطيع الإرهاب هجومه، على قرية الصديقين الحميمين، دافعا عنها ببسالة وشجاعة، أسندا ظهريهما معاً وأنشدا: (يما مويلي الهوى يما مويلي، طعن الخناجر ولا حكم الإرهابي فيّ).

بعد أن انجلت المعركة واندحر الغزاة عن القرية، بفضل الجيش العربي السوري البطل والمقاومة الشعبية، تبين استشهاد الصديقين دفاعاً عن القرية والوطن والأهل، حزن كل أفراد القرية عليهم، فالإرهابيون نكلوا بجثامين الشهداء الطاهرة، فكان جسديهما بلا (قرعة) وبلا (صلعة).

العدد 1140 - 22/01/2025