الواحات الضريبية

كثيرة هي الوسائل التي تتبعها الشركات المتعددة الجنسيات للتهرب الضريبي، إذ تلجأ لتخفيض معدلات الضريبة المفروضة عليها إلى مستويات متدنية، وذلك بموجب اتفاقيات سرية مع السلطات الضريبية في عدد من الدول التي تعد ضمن الملاذات الضريبية المعروفة في العالم، أو ما تسمى الواحات الضريبية، حيث تجري عمليات تبييض الأموال، إذ تلجأ الشركات والمستثمرون إلى هذه الواحات بهدف تخفيف العبء الضريبي المفروض عليهم من قبل المشرّع في البلد الذي يقيمون فيه أو يمارسون نشاطهم الاقتصادي فيه أو لتهريب أموال حصلوا عليها بطرق غير مشروعة، الأمر الذي يستنزف أموال الدولة الأم للشركة، إما بسبب التهرب الضريبي أو نتيجة الامتيازات والإعفاءات الضريبية التي تمنحها بعض الدول لصالح الأغنياء، ويتجلى ذلك على مستوى واردات الدولة من الضرائب، وينعكس على مستوى الإنفاق.

ويوجد حول العالم قرابة مئة منطقة تستقطب هذه الأموال الهاربة من دفع الضريبة في بلادها وتخلصها من قبضة وطنها الأم، والصيغة التي يعمل بها هؤلاء الحماة تكاد تكون واحدة، في  كل المناطق، فهم يتعهدون بأن تكون الضريبة متدنية جداً أو معدومة على ودائع الأجانب، كما يخضع إفشاء هوية صاحب الحساب للعقوبة حتى إن كان الراغب في معرفة الهوية مؤسسة حكومية.

وبعبارة أخرى فإن وجود الواحات الضريبية هو نتيجة الاختلاف بين الأنظمة الضريبية، وهذا الاختلاف يدفع المكلف ضريبياً إلى اختيار المكان الأقل تكلفة له من حيث العبء الضريبي، فأضحى التنافس بين الدول لتخفيض الضرائب ظاهرة منتشرة تستفيد منها الشركات، ولم يقتصر الموضوع على ذلك، إذ تتنافس الدول على تقديم أسخى التبرعات والمساعدات لجذب الاستثمار والرساميل، أو للحفاظ على الاستثمارات الموجودة فيها.

وبدأت في السنوات الأخيرة تعلو الأصوات المطالبة بإيجاد حلول للواحات الضريبية التي يفر إليها المكلفون الأثرياء دون أن يفوا بواجباتهم الاجتماعية، فبدأت الدول تسعى لإيجاد معاهدة دولية تمنع الشركات من التحايل عليها، لأن عدم فرض الضرائب يشوه المنافسة الدولية، ويقلل من الإيرادات الحكومية، ولكنها واجهت رفضاً كبيراً من عدد من الدول، فمثلاً لم يتمكن الاتحاد الأوربي من توحيد المعدلات الضريبية في جميع أنحاء أوربا، إذ تخشى دول منخفضة الضريبة من انعكاس ذلك على الاستثمارات الموجودة على أراضيها، وحتى الآن لم تتجرأ حكومة واحدة على زيادة الضرائب على الثروة والرأسمال، بل تقوم حكومات كثيرة بمنح تخفيضات ضريبية على أرباح الرأسمال، وتغض النظر عن النقل المتزايد للثروات الى مناطق الواحات الضريبية.

ومؤخراً تزايدت الضغوط على الحكومات الأوربية لزيادة التدخل في النشاط الاقتصادي واستثمار الوردات الضريبية في تنمية المناطق المتخلفة في الأرياف وأطراف المدن، لإيجاد فرص عمل تحد من معدلات البطالة وتسهم في زيادة معدلات النمو الاقتصادي، أما الانصياع الأعمى لسياسة الليبرالية الجديدة فلن يساعد على تطوير الاقتصاد المحلي، بل سيعمق التفاوت الاجتماعي داخل المجتمعات الأوربية كافة.

كذلك أشارت قمة العشرين عام 2013 إلى الأخطار الماثلة امام الانتعاش الاقتصادي العالمي خاصة (المرتبطة بالنمو البطيء في اقتصادات الدول الناشئة الذي يعكس تأثير تقلبات تدفق الرساميل والظروف المالية الأكثر صعوبة وتقلب أسعار المواد الأولية)، وأقرت القمة إجراءات جماعية للحد من التهرب الضريبي ونقل الأرباح الرأسمالية من واحة ضريبية إلى أخرى، كما اتفق المجتمعون على تبنّي مقررات قمة دبلن لمجموعة الدول الثماني في حزيران الماضي المتعلقة بتطوير إجراءات مكافحة الفساد، ومحاولة سد الثغرات في النظام المالي الدولي وفرض رقابة على الجنات الضريبية حيث تجري عمليات تبييض الأموال. تعهد زعماء دول المجموعة، بمعاونة الدول الناشئة في مكافحة التهرب الضريبي، وذلك بمساعدتها في اقتفاء أثر الأموال التي يخفيها مواطنوها في ملاذات ضريبية.

إن الكسب غير المشروع ظاهرة قديمة موجودة في كل الدول المتقدمة والنامية، لكن الفساد في الدول الديمقراطية يصطدم بالقوانين الواضحة التي تُسن في المجالس المنتخبة ديمقراطياً، لكن في البلدان النامية يمكن ببساطة شديدة الربط بين عمليات الفساد والأزمات الاقتصادية التي تعانيها هذه الدول. أما عن حجم الفساد في الدول النامية، والتي يبلغ عددها خمسين دولة، فقد أظهرت الدراسات التي قامت بها الأمم المتحدة، وهيئات دولية مستقلة أن المبالغ التي اختلستها القيادات الفاسدة بلغت 6.1 تريليونات دولار، وأن 40 مليار دولار ينهبها سنوياً الأشخاص الذين يشغلون أعلى المناصب في الدول الأكثر فقراً في العالم. كما يضيع سنوياً نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية بسبب الفساد، أو ما تبلغ قيمته 148 مليار دولار. وقد أطلقت الأمم المتحدة بالتعاون مع المصرف الدولي مبادرة مشتركة حملت اسم (ستار) لمكافحة الواحات المالية الآمنة، كجزر (الكيمن) الخاضعة للتاج البريطاني، وإمارة لشتنشتاين، واللوكسمبورغ، ولمساعدة الدول النامية على استعادة ما يزيد على 6.1 تريليونات دولار من الأموال والأصول التي اختلستها القيادات الفاسدة من مصارف تلك الواحات وصناديقها. إذ من الضروري عدم وجود ملاذ آمن لمن يسرق الفقراء. وتبين للأمم المتحدة أن استعادة 100 مليون دولار من الأموال المنهوبة تسمح بتمويل خدمات التلقيح والتحصين ضد الأمراض الفتاكة لأربعة ملايين طفل، وإيصال المياه النظيفة إلى 250 ألف أسرة، وتوفير العلاج لأكثر من 600 ألف شخص من المصابين بمرض الإيدز طيلة عام كامل. (راجع بشار المنيّر – جريدة النور، العدد 595)

إن محاربة الفساد والتهرب الضريبي ومكافحة الواحات الضريبة هي شعارات رفعت عالمياً، ولكنها اصطدم بالمصالح والجشع واستغلال الإنسان، فهل نتمكن في بلادانا من التقدم خطوة في هذا المضمار، أم أن دعم الإنسان مازال قاصراً على الشعارات فقط؟!

العدد 1140 - 22/01/2025