على جدران الذاكرة – ٢ –

العمل في النقابات العمالية ومواقف الشيوعيين النضالية في صفوف الطبقة العاملة السورية

يوسف فرحة:

لن تضيع بوصلة الشيوعيين السوريين الوطنية والطبقية ما داموا يمتلكون ذلك التاريخ العريق من النضال في صفوف الحركة النقابية العمالية في سورية، وعلى النطاق العالمي والعربي والوطني – رفاق ساهموا بنهوض الوعي الطبقي والنقابي العمالي ونقلوا بواكير الفكر الاشتراكي إلى صفوف الطبقة العاملة السورية – وهذا ليس غريباً عليهم، فمن أوائل الرفاق مؤسسي الحزب الشيوعي السوري اللبناني كان أول أمين عام للحزب الرفيق فؤاد الشمالي، العامل الذي أسس النقابات العمالية في فلسطين ونقابة عمال الريجي في لبنان –  والرفاق إبراهيم بكري من عمال الشركة الخماسية في دمشق وجميل الشيخ عثمان من عمال شركة الـ ABC  كانوا من مؤسسي الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية عام ١٩٣٨ واتحاد نقابات العمال العالمي عام ١٩٤٨ – وكذلك الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب عام ١٩٥٦ – ومن مؤسسي نقابات النول اليدوي نقابات الغزل (الحطة والزنار) رفاعي السبسبي وراتب جبنة – والقائمة تطول، عمال نقابيون مناضلون في كل ساحات العمل في سورية – الرفيقان سعيد القواس ونديم النرشة، عملا في شركة مصابغ حمص على تشكيل أول نقابة للعمال هناك، فجرى تسريحهما من العمل – الرفيق عبد الكريم الخواجه كان يقود المظاهرات لعمال معمل سكر حمص في الأربعينيات، وكان المعمل للقطاع الخاص – كان يوجه العمال بالنزول إلى المدينة سيراً وعدم لفت انتباه أرباب العمل والشرطة، ويكون التجمع في مركز المدينة حيث تنطلق المظاهرة من أجل تحقيق مطالب العمال.

– وفي مجال عمال البناء كان الرفيقان النقابيان عبد الكريم مخول وأبو اليان البواب إلى جانب النقابيين الوطنيين الشرفاء عبد الكريم معلوف، وعمر السباعي (رئيس نقابة عمال النفط في شركة نفط العراق) وآخرين في اتحاد عمال حمص ساهموا بالدفاع عن مصالح عمال البناء.

– الرفيق بشير خطاب من نقابة السكك الحديدية، والرفاق عزيز غريبة وحسين القصير من نقابات عمال المصارف الذي أسس أول مؤسسة استهلاكية في دمشق منذ أوائل السبعينيات في القابون، ساهمت بتثبيت الأسعار مما عرضها للحرق من قبل لصوص السوق، لكنها صمدت ومازالت تقدم خدماتها لكل الكادحين.

 

في الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية:

هذا التنظيم الوطني الكبير الذي ضم مئات آلاف العمال السوريين وشكل القوة الأولى بين المنظمات الشعبية التي دافعت عن حقوق الطبقة العاملة السورية بكل بسالة، وفي كل الظروف التي مرت على سورية، فقد تمتّع الاتحاد بقيادات نقابية عمالية تاريخية كانت سنداً كبيراً لعمالنا عمال الوطن – وكان يتبع قيادة الإتحاد أكثر من ٤٢٠٠ نقابة ولجنة نقابية في كل التجمعات العمالية في سورية. مثّل حزبنا الشيوعي السوري الموحد في هذا التنظيم على مدى عقود مضت مئات الرفاق في كل محافظات القطر بدءاً من عضوية اللجان والمكاتب النقابية والمكاتب التنفيذية في اتحادات المحافظات والاتحادات المهنية وحتى مجلس الإتحاد العام وعضوية المكتب التنفيذي أعلى هيئة في قيادة الاتحاد على نطاق سورية.

– وهنا لابد من ذكر بعض مواقف الرفاق التاريخية وما قدموه للطبقة العاملة من خدمات لا تُنسى، فكان التنسيق يجري بين الرفاق النقابيين في المحافظات وحتى أعضاء المجلس العام الذي تعاقب على عضويته خلال مراحل زمنية متتابعة مع تطور الحركة النقابية رفاق تمكنوا من نقل صوت الطبقة العاملة السورية بأمانة، وكانت أصواتهم مؤثرة في كل توجهات وقرارات الاتحاد العام – وأذكر على سبيل التذكير الرفيقين إبراهيم بكري، وحاتم السباعي (من حمص)، عدنان صباهي، أحمد البلا، حسن قوسي (من حلب) وفي مرحلة لاحقة الرفيق شهيد العمل عزالدين الرضوان (من حمص) والرفاق محمد ونوس، جودت العبد الله، ورئيف بدور (من طرطوس) وكذلك الرفيق عيسى خوري (من عمال سد الفرات) والرفيق محي الدين درغام (من عمال الإسمنت في دمشق) والرفيق علي ريّا (من نقابة عمال الكهرباء في اللاذقية) والرفيق رفيق ضاهر (من اتحاد عمال حماه)، والرفيق يوسف فرحة (من اتحاد عمال حمص) والرفيق فضل الله عبد الدين (من اتحاد عمال السويداء)، والرفيقة إنعام المصري (من اتحاد عمال دمشق). وفي هذه الدورة يمثل حزبنا الرفاق بشار خريستين (من دمشق) ومحمد الياس (من دير الزور).

ونذكر هنا بعض القضايا الهامة التي أنجزت في مراحل مختلفة من نضالنا، – جهود كبيرة بذلت من قبل رفاقنا النقابيين وبمساعدة رفيقنا وزير الري الرفيق نادر البني من أجل تمليك السكن للعاملين في سد الفرات.

– إدراج الأمراض المهنية لعمال الإسمنت وتحريم التعامل بمادة الإسبستوس المسرطنة.

– التصدي لوزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ديالا الحاج عارف عام ٢٠٠٥ ضد محاولتها تعديل تعويض معاش الشيخوخة للعمال المتقاعدين عبر ندوة أعدت لها في فندق الشام دون إعلام قيادة الاتحاد العام، فقمنا بإعلامهم وبحشد الصحفيين وبحضور الرفاق رئيس وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد العام تمكّنّا إفشال محاولتها الخطرة، بعد التحضير من قبل رفاقنا ورفيقتنا إنعام المصري التي جهزت إحصاء كاملاً بالمبالغ التي دفعتها مؤسسة التأمينات الاجتماعية وأرباحها، فقد ادّعت الوزيرة أن المؤسسة خاسرة.

– والقضية الهامة الثانية التي كان لها الأثر الكبير على عمالنا وحياتهم بعد التقاعد- وهي مبادرة الرفيق يوسف فرحة في اتحاد عمال حمص- بطرح مشروع صندوق التكافل الاجتماعي لعمال حمص، الذي شكّل نقلة نوعية بتعويض نهاية الخدمة للعامل، فقد وصلت إلى حوالي ٢٥٠ ألف ليرة سورية يمنحها الصندوق المقترح – وبعد الاجتماعات المتكررة مع مكاتب النقابات كلٍّ على حدة والنقاش المسؤول في المكتب التنفيذي أقر المشروع مشروطاً بموافقة الاتحاد العام، عرضت المشروع على الرفيق محمد شعبان عزوز (رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال سورية)- لروحه السلام- وبعد نقاش مطول معه وافق عليه لثقته بصحة عملنا، واتخذ القرار في المكتب التنفيذي برئاسة  الرفيق أحمد الحسن (رئيس اتحاد عمال محافظة حمص)- لروحه السلام- وعُمّمت هذه التجربة الناجحة بعدها في كل المحافظات.

وهذه بعض المواقف سيذكرها عمالنا أينما كانوا:

(العمل بين العمال).. إنه شعار أطلقه الحزب في فترة زمنية سابقة، وكيف جرى التعامل مع هذه الشعارات وتنفيذ سياسة الحزب المقرة في مؤتمراته، وكان السؤال يذهب بعيداً كيف للبيروقراطية الحزبية أن تذهب للعمال؟ وكيف تلاقي مطالبهم وتتعرف إلى حقيقة مشاعرهم ومعاناتهم الحياتية التي كانت ومازالت صعبة ومريرة أحياناً؟ رغم بعض الاستثناءات فإننا تاريخياً نفتقر في حزبنا إلى قيادات شعبية جماهيرية تعيش آمالهم ومعاناتهم – وكان الرد الواقعي هو دور رفاقنا العمال النقابيين الذين رسخوا على أرض الواقع فكر الحزب ونفذوا شعاراته –  رغم أن ما قدمته قيادات الحزب التاريخية لا يمكن لأحد إنكاره في النضال من أجل قضايا الشعب والوطن والعمل من أجل التقدم الاجتماعي وتطوير حياة الكادحين في سورية.

منذ بداية عملي في الشركة العامة للأسمدة عام ١٩٦٨ كنت دائماً قريباً من العمال الذين عملت معهم، وكنت مسؤولاً عن خمسة وخمسين عاملاً – كنا نحضر الزوادة التي تحوي الطعام ونفترش الأرض ونأكل معاً في مجموعات بين صناديق الآلات وقت الاستراحة أثناء تركيب آلات المعمل لمدة نصف ساعة يومياً، ولم أميّز نفسي عنهم وكنت أحرص على علاقة طيبة معهم حتى صرت أعرف معظم أوضاعهم العائلية والمادية، ودخلت بيوت الكثيرين منهم.

دخلت معترك الحركة النقابية العمالية منذ أواسط السبعينيات من القرن العشرين بترشيح من الحزب الشيوعي السوري – كنت ومازلت أكره الظلم والاستغلال، وعلمتني تجارب الحياة أن الدفاع عن المظلومين يحتاج إلى الإيمان بعدالة قضيتهم والموقف الصلب وعدم التراجع أو المساومة على الحقوق –  تعلمت ذلك من تجربتي مع الرفاق الشيوعيين الإيطاليين عام ١٩٦٩ حين كنت موفداً مع مجموعة من العاملين إلى ايطاليا عندما سُرقت كل مبالغ المهمّة من خزانة أحد عمالنا السوريين في المعمل الذي نداوم فيه، أخبرني الرفاق من العمال الشيوعيين في الشركة بأنهم سيطالبون المدير العام للتجمع الذي يضم أكثر من ٣٠ ألف عامل بأنه إن لم يُعِد للعامل العربي أمواله التي سُرقت من داخل المعمل، فسوف يعلنون الإضراب بعد ثلاثة أيام، وجرى إبلاغه بهذا القرار، فما كان أمام المدير إلا الرضوخ بعد أن اتصل بالإدارة العامة في ميلانو، وصُرف كامل المبلغ وقيمته ٣٠٠ ألف لير ايطالي لزميلنا.

وكذلك الموقف عندما شاركت في مظاهرة عمالية في فلورنسا وتبين أنها من عمال شركة نووفو بنيوني التي نداوم فيها، وقد علمت إدارة الشركة بمشاركتي من رئيس القسم الذي كان يوصلني إلى المدينة عندما صادفنا المظاهرة، فأخذ يسبّ ويشتم العمال المتظاهرين، فطلبت منه التوقف بعد أن أبديت احتجاجي على موقفه وأمامه مشيت في المظاهرة، فقرّرت الإدارة إعادتي إلى سورية وإلغاء مهمّتي، ولم يدافع عني مدير البعثة السوري المهندس المسؤول، بل دافع عني رفاقنا النقابيون الشيوعيون مع عدد من العمال الإيطاليين الذين زكّوني بالعمل واللغة، فقد كنت مهتماً بالعمل وأتحدث الإيطالية بشكل جيد حتى تراجعت الإدارة عن كتابها وأوقفت القرار.

 

من هنا كانت مسيرتي النقابية تتسم بالقوة التي استمددتها من رفاقنا في الحزب الشيوعي الإيطالي وحزب وحدة البروليتاريا هناك، وأغنت تجربتي النضالية في العمل النقابي – وكان العمل في المكتب النقابي العمالي المركزي التابع للحزب الشيوعي السوري الموحد متابعة هامة ومدرسة في النضال من أجل حقوق العمال. كنت أحاول أن أكون مثالياً في العمل والدفاع عن العمال، نجحت في بعض الحالات وفشلت في حالات أخرى – مثال: جاءني عامل بحاجة إلى طقم أسنان رفض المدير العام للشركة الموافقة على صرف قيمته، أخذت العامل ودخلت برفقته على المدير، فقال: إن الأنظمة في الشركة لا تسمح. أجبته إن هذه معالجة لحالة صحية وليست عملية تجميلية ونظام الشركة يغطي كل تكاليف العلاج للعاملين، وهي كلفة لا تعادل قيمة وجبة غذائية في مطعم! وافق المدير العام على الصرف وأصبحت بعدها موافقة دائمة لصرف قيمة بدلة الأسنان.

– هذه بعض ذكريات العمل عن عامل شيوعي آمن بالفكر الماركسي اللينيني وبالاشتراكية مستقبل البشرية.

– عاش حزبنا الشيوعي السوري الموحد!

وعاشت الذكرى المئوية لتأسيس السنديانة الحمراء الخالدة!

٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤

العدد 1140 - 22/01/2025