الحضور النوعي لموسكو في الشرق الأوسط
من البديهيات أن العلاقات بين الدول هي بحاجة دائماً إلى المراجعة والتحديث والتأهيل والترميم، شأنها شأن كل شيء آخر، وإلا تتلاشى أو تضعف أو أنها تفقد حيويتها، ولا شك في أن الظروف الموضوعية هي التي تتحكم بمستوى العلاقات بين دولة وأخرى، وتفرض المعطيات القائمة على الأرض والواقع شكل هذه العلاقة ومضمونها، وغالباً ما تكون وفقاً لموازين القوى ولحاجة كل دولة، وعلى هذا الأساس يمكن تفعيل العلاقات الثنائية أو خفض مستواها.
ومن خلال المشهد العالمي السياسي، تبدو روسيا اليوم بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين أكثر نشاطاً وحماساً لتفعيل دورها في الشرق الأوسط، وعلى مختلف المستويات وفي كل المجالات الحيوية: الاقتصادية والعسكرية والسياسية، كما يبدو حرصها واضحاً على تفعيل هذا الدور، وأن يطول معظم دول المنطقة القريبة منها والبعيدة، والمتضررة من تدخلاتها، أو المستفيدة من هذه التدخلات.. وتستفيد روسيا في هذا المجال، من تخبط بعض الدول وإخفاقاتها، مستخدمة الإغراءات الاستثمارية، وكذلك من مستوى الأداء العسكري لقواتها المسلحة، بعد أن أكدت التجارب العملية فعالية بعض الأسلحة التقليدية المتطورة التي تنافس قريناتها المصنعة في الدول الأخرى، سواء من حيث الفعالية والدقة، أو من حيث انخفاض أسعارها.
هناك تقليد قديم أو عادة روسية تقول: إن خطوات السير على الأقدام عندهم ثقيلة وبطيئة أحياناً، إلا أنها لا تتوقف، ولا تتراجع عند صعوبة أي منعطف، وهي تتحمل أشد أشكال القساوة والوعورة، كما (الدب السيبيري) الذي يقطع مسافات طويلة في ظروف مناخية باردة جداً، وفي الصحاري القاحلة ليصل إلى أهدافه البعيدة.
هكذا عبر الأسطول الروسي المحيطات والبحار عبر المحيط الشمالي والبحار الأوربية وشرق الأطلسي، ليصل إلى شواطئ المتوسط الشرقية في عام ،1772 عندما أقفل العثمانيون في وجهه المضائق التركية، وذلك ليحتل شواطئ فلسطين ولبنان حينذاك، وليساند بذور التمرد المصري على السلطة العثمانية.
إن الانطلاقة الروسية لاستعادة المكانة الدولية عبر الشرق الأوسط، بدأت عملياً في عام ،2015 وبدت متماسكة، وفيها تصميم واضح على استعادة زمام المبادرة، بعد فترة من التراخي أو الضياع في عهدي غورباتشوف ويلتسين.
ولقد شكل التدخل الروسي العسكري في سورية في أيلول عام 2015 وبطلب رسمي من الدولة السورية، مدخلاً لإحداث الفروق النوعية في الحضور السياسي والعسكري الفاعل لموسكو.. فعملية إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا فوق الحدود السورية – التركية في نهاية عام ،2015 كادت أن تؤدي إلى حرب بين البلدين، إلا أنه بعد الحادث تطورت العلاقات بينهما بشكل غير مسبوق في شتى المجالات، وتم توقيع مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، إلى جانب اتفاقية لتزويد موسكو لأنقرة بصواريخ (إس 400) دفاع جوي المتطورة، لتصبح تركيا الدولة الوحيدة في حلف الناتو التي تمتلك مثل هذا السلاح الفعال.
وعلى قاعدة هذا التعاون الروسي- التركي، عُقدت قمم بين الطرفين وإيران، أدت إلى عدة نتائج إيجابية أهمها: إفشال محاولة إقليم كردستان للانفصال عن العراق، وفرض طوق محكم على التطورات الميدانية في سورية، وبالتالي أمسكت روسيا بنواحي الحل السياسي للأزمة السورية، وقد تمكن روسيا في ظل هذا التعاون والتنسيق مع إيران وتركيا، من إحداث مناطق خفض التصعيد في سورية، ما خفف من حدة القتال، وأرست مسار التفاوض في أستانا، وصولاً إلى التهيئة للحوار السوري – السوري في سوتشي المزمع عقده في نهاية شهر كانون الثاني الجاري.
ومؤخراً قام الرئيس الروسي بوتين بزيارة للمنطقة استمرت لثلاثين ساعة فقط في 11 و12 كانون الأول ،2017 كانت بمثابة تفقد من الرئيس الروسي لمسار استعادة الدور الروسي في المنطقة، جال خلالها هذه الساعات المعدودة على القاعدة الروسية في مطار حميميم في اللاذقية، والتقى فيها الرئيس بشار الأسد، إذ كان لقاؤهما بمثابة لقاء المنتصرين على الإرهاب، مؤكداً عزم روسيا على المضي في مسار الحل السياسي في سورية عبر التفاوض السوري – السوري.
كما زار بوتين في ساعاته الثلاثين هذه القاهرة والتقى الرئيس السيسي ووقّع معه اتفاقية مهمة جداً سميت (اتفاقية العقد) (أي أنها أهم اتفاقية بين الدولتين خلال العشرية الثانية من القرن الحالي)، نصت على بناء مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية بقوة 3600 ميغا واط، يفترض الانتهاء من إنشائه وبدء الاستفادة منه في عام ،2026 ويعتبر مثل هذا المشروع الضخم حلماً مصرياً قديم العهد لم تتمكن أي حكومة مصرية من تحقيقه.. كما أعلن الرئيس الروسي خلال هذه الزيارة عودة التبادلات السياحية بين الدولتين بعد توقف دم سنتين.
بعد زيارة القاهرة انتقل الرئيس الروسي خلال الجولة نفسها إلى أنقرة، ووقع مع أردوغان عدة اتفاقيات تجارية، ووضعا معاً اللمسات الأخيرة على مسار التسوية في سورية، وستساهم تركيا في تسويق التسوية مع أصدقائها المعارضين السوريين.
ولا شك في أن تمتين روسيا لعلاقاتها مع تركيا إلى هذه الحدود، يعد سابقة مهمة في سياق العلاقات الدولية، لأن تركيا عضواً في حلف الناتو.
أيضاً شملت الاندفاعة الروسية الشرق أوسطية باتجاه سورية وتركيا ومصر وإيران، شملت دولاً أخرى، فقد أبرمت روسيا اتفاقيات مع السعودية اقتصادية وعسكرية، منها تزويد موسكو للرياض بصواريخ (إس 400) المتطورة، كما ساهمت روسيا في ضمان الاستقرار في لبنان، وزار مسؤولون منها دولاً عربية أخرى مثل الجزائر والمغرب وليبيا وقطر والإمارات، كذلك جاءت زيارة الرئيس السوداني عمر البشير لموسكو في 22/11/2017 والترحيب الذي لقيه والاستجابة لطلبه بإقامة قاعدة عسكرية روسيا في بلاده، لتدل على عزم روسيا على توسيع علاقاتها مع دول المنطقة بأسرها على أساس من التعاون والاحترام المتبادل.