ماكرون: أنا أو الفوضى!
د. نهلة الخطيب:
يقول شارل ديغول: (المهمّ أن نكون حاضرين).
هناك رؤساء يريدون تخليد أسمائهم في التاريخ عندما تكون الظروف مواتية، قد يكون ماكرون بميوله الديغولية واحداً منهم، ولكن هناك استحقاقات بل تحديات كبيرة تواجهها حكومته: الحرب الأوكرانية، الانتخابات ومفرزاتها، الأزمة المالية وأزمة الدين العام التي تعيشها فرنسا، الحرب في الشرق الأوسط. ماكرون كان حاضراً بقوة في حرب أوكرانيا ولكنه يأتي بخطابات فقط، وظهور إعلامي، كما أن فرنسا ليس لها صدى أو تأثير على الأحداث، وهي تسعى إلى قيادة الموقف الأوربي، ليكون لها مكان في المشهد الدبلوماسي الدولي والإقليمي على الرغم من نفوذها المحدود على أرض الواقع. ماكرون المعترض على السياسة الأمريكية اتجاه أوربا، حتى إذا ما اندلعت الحرب في غزة، نراه تجاوز البريطانيين بدور الظل للأمريكيين، وبدور المنقذ في الشرق الأوسط، خوفاً من أن تنفلت الأمور من يديه، تزامنت الانتخابات مع الحرب في غزة، التي لا يمكن أن يكون فيها وسطية، فهناك مغتصِب ومغتصَب، وليس هناك حق دفاع لإسرائيل لتبرير ارتكابها جرائم ضد الانسانية، فالقضية الفلسطينية ليست قضية وسطية لا تحتمل الشعارات، فهناك فهم خاطئ للقضية الفلسطينية، فهم خاطئ لمشكلات الشرق الأوسط فهو فهم أوربي غربي، والكيل بمكيالين، فرنسا تسير على خط موازٍ لأمريكا، ورغم أن فرنسا أحد الأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن، ولكن الموقف الفرنسي مستضعف. ماكرون يعي تلك التحديات التي تواجهها حكومته الحالية، ولماذا عليه تحمل الفشل الذي يمكن أن يصيب الدولة الفرنسية في أي حدث من هذه الأحداث؟؟؟ خاصة أن الحسابات والرهانات على انتخابات 2027 تناسب الكل إلا ماكرون، كل القوى موجودة وماكرون خارج اللعبة، لا يمكنه الترشح مرة أخرى.
اليمين المتطرف يغزو المجتمع الأوربي كله، وفرنسا أصابها ما أصاب أوربا، يقول ماكرون: (لا مكان للعلمانية)، بعد أن ارتفعت أسهم اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية الأوربية، وفي استطلاعات الرأي مقابل انخفاض أسهم ماكرون، المنافسة شديدة في كل المجالات. عندما وصل ماكرون إلى الرئاسة كانت خطته القضاء على اليمين المتطرف، فشل ووصل عدد نواب اليمين المتطرف إلى 89 نائباً عام 2022، وكانت سابقة بتاريخ فرنسا. للحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان يحتاج الحزب الحاكم إلى 289 من أصل 577 صوتاً، ولم يشغل ائتلاف ماكرون سوى 250 مقعداً في البرلمان، وكان عليه حشد الدعم من الأحزاب الأخرى في كل مرة للتصديق على أي مشروع قانون أو موازنة، وهذا الفشل بسبب السياسة الفرنسية والتجييش ضد الإسلام، (الإسلاموفوبيا) كما معاداة السامية، عجز ماكرون عن تنفيذ وعوده، واتباع سياسات أدت إلى استمرار الهجمات الارهابية، وتفاقم الحالة المعيشية الفقر، صعود نجم التيك توك، بارديلا رئيس حزب اليمين المتطرف وتراجع ماكرون، وضع فرنسا أمام اختيار صارم (يهدد حاضر فرنسا ومستقبلها) حسب ماكرون، بين الوضع الراهن المؤيد للاتحاد الأوربي وأوكرانيا، وخطر وجودي يتمثل في حكومة يمينية متطرفة معادية للاتحاد الأوربي.
اليمين المتطرف يجنح إلى سياسة المهادنة والغموض بالنسبة للأزمة في أوكرانيا، فعلاقته مع روسيا أثارت تساؤلات حول موقف الحزب، فيما إذا فاز بالانتخابات وتشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، من تزويد أوكرانيا بالسلاح؟؟ هناك مخاوف من انهيار دعم أوكرانيا، وإعادة تشكيل السياسة الخارجية لفرنسا والتركيز على التعاون الثنائي بدل التعاون مع المنظمات الدولية، رافضاً أن تكون فرنسا تابعة للإدارة الأمريكية، أو خاضعة لأي قوة دولية أخرى، وينتقد السياسة الأوربية من الهجرة، ويقترح فرض قانون يسهل ترحيل الأجانب، وينص على الحق في الإعادة القسرية لمهاجرين وصلوا إلى الأراضي الأوربية مما يعني توتر علاقاتها مع بعض الدول. ستحمل الانتخابات القادمة تداعيات تتجاوز فرنسا إذا فاز اليمين المتطرف تصيب هيبتها ونفوذها حول العالم.
حتى نفهم الحاضر لابد من استحضار التاريخ، عندما وصلت الجمهورية الرابعة إلى أزمة تشريعية بالحكم، فرض شارل ديغول شروطه بدستور جديد ونظام أغلبية مطلق للخروج من جمهورية الأحزاب التي كانت هي الجمهورية الرابعة، وأسس الجمهورية الخامسة، جمهورية الرئيس الملك، يملك كل السلطات التنفيذية والسلطات السيادية، بالرغم من أنها نظام رئاسي، ولكن الرئيس لا يستطيع أن يحكم إلا إذا كان عنده أغلبية في مجلس النواب، الجمهورية الخامسة بدأت تضعف سنوات بعد سنوات وأول ضربة لإضعافها كانت المساكنة عام 1986 بالانتخابات النيابية من عهد ميتران الذي فتح الباب لشيراك وبالنهاية أُعيد انتخابه كرئيس جمهورية عام 1988، اليوم يطبقها ماكرون بالرغم من أن المشكلة في المساكنة موجودة، مشهدية الجمهورية الرابعة بالرغم من أنه بالجمهورية الخامسة، يلعب على أزمة دستورية ومؤسساتية وأزمة جمهورية خامسة عجزت عن إنتاج أغلبيات مطلقة، فالمشهدية المقيتة التي يحاول ماكرون (الرئيس الملك القادر على كل شيء) إظهارها من خلال ضرب الأوراق وحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات جديدة، لتفعيل الخوف من اليمين المتطرف واليسار المتطرف وتفجير التطرف وخلق تيار وسط يسيطر عليه، لا نريد لا أقصى اليمين ولا أقصى اليسار، ما بين وبين (الوسطية). وهو الذي فجر اليمين الوسط واليسار الوسط وخلق فراغاً في 2022، وفتح المجال للتطرف الذي يلعب اللعبة الانتخابية، ولكن الأجيال القادمة قد تقرأ في كتب التاريخ أن ماكرون هو الذي حل البرلمان، ثم وصل أقصى اليمين إلى الحكومة!
أقصى اليمين غير قادر على الحكم وإن كان الناخبون وصلوا إلى سقف زجاجي لا يمكن أن يخترقوه، المواطن الفرنسي جرب اليمين وجرب اليسار، والناخب تحركه عوامل نفسية الخوف من الحرب، الخوف من تدني القدرة الشرائية، الخوف من الأجنبي وعلى أمنه، النسبة التي يصل إليها اليمين المتطرف في جميع الانتخابات منذ 40 عاماً لا تخترق نسبة 15% في أعلى مشاركة، ولم يحصل على أغلبية البرلمان فليس لها أي وقع ولا تشكل حدثاً رهيباً على أي ديمقراطية، لماذا يهول الأمور ويعطي اليمين المتطرف ما لا يستحقه.
الانتخابات التشريعية لها دوران، المهم أن نعرف ما هي البرامج ونسبة المشاركة في الدور الأول، وسيكون لها دور حاسم في الأحداث التالية، ستكون من أعنف الحملات الانتخابية التي شهدتها فرنسا من جميع النواحي، الأحداث ستكون متسارعة وغير منتظمة، فكل يوم سيكون هناك حدث، هناك حالة احتقان في الشارع، في الأحزاب نفسها، في الناخب.
(أنا أو الفوضى) شعار أطلقه ماكرون منذ عام2017، إما ينجح ماكرون في خطته المحبوكة إلى حد ما، والحصول على أغلبية من خلال خلط الأوراق، وإذا لم يستطع كسب أغلبية مطلقة، ونجح الاتحاد الوطني بأغلبية مطلقة، وهذا مستبعد عندئذٍ مفروض عليه دستورياً تعيين رئيس الوزراء، وإذا لم يستطع الحصول على الأغلبية المطلقة، وأخذ أغلبية نسبية لا تسمح له المشاركة في الحكومة، حينئذٍ سيلجأ ماكرون إلى تشكيل ائتلاف لتعيين رئيس الوزراء.
في كل السيناريوهات ماكرون سيكون ناجح.