لماذا إسرائيل؟!
د. نهلة الخطيب:
لم يحظَ تأسيس دولة في التاريخ المعاصر باهتمام دولي كما حظيت إسرائيل، فقد جرى ترتيب المؤسسات الدولية واستغلال نتائج الحرب العالمية الثانية، وموازين القوى، في فرض ترتيبات نجم عنها حقيقتان؛ الأولى تأسيس دولة على أنقاض دولة أخرى، والثانية حرمان شعب من ممارسة حقه في الاستقلال وبناء دولته. إسرائيل التي وُجدت بفضل المجتمع الدولي وجدت نفسها في محيط لا تنتمي إليه، سعت لنسج علاقات بسبب حاجتها الدائمة إلى أن تجد محيطاً من الأصدقاء سواء في المؤسسات الدولية أو المنظمات الإقليمية، بجانب الحاجة إلى إخراج الدولة من أي عزلة تفرض عليها بسبب عدم تقبلها في الإقليم الذي تعيش فيه: (الشرق الأوسط).
إسرائيل تحسب وبلا شك ذراعاً لتنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة وحماية لمصالحها الحيوية، فالدولتان تحتفظان بقدر كبير من التشابه في الأهداف الاستراتيجية العامة إقليمياً ودولياً، وإن كان هناك اختلاف في الأولويات والاهتمامات فإنه ينبع من اختلاف الرؤية والبيئة السياسية العامة، فالولايات المتحدة الأمريكية لها التزامات كونية كونها قوة عظمى ووحيدة في العالم، والأفق الإسرائيلي محصور في بيئة أكثر تحديداً ومسؤوليات أقل تنحصر ببقاء الدولة اليهودية وأمنها، فلماذا إسرائيل؟؟!!
ترتكز العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على أبعاد تاريخية وثقافية ودينية تسبق قيام دولة إسرائيل، وتعود بجذورها إلى هجرة المؤسسين الأوائل للعالم الجديد (أمريكا)، وبناء مستعمراتهم حاملين معهم مفاهيم وأساطير العهد القديم، معتقدين أنهم (بنو إسرائيل) وأن العالم الجديد هو (أرض كنعان)، ويعتبر العامل الديني مؤثراً قوياً في تفسير متانة العلاقات بين الطرفين، فالموروث الديني الأمريكي يتشكل، في جزء كبير منه، من الصهيونية منذ هجرة البيوريتان إلى العالم الجديد في القرن الـ17، حاملين معهم العقائد التوراتية والعهد القديم، والبيوريتان هم أتباع حركة الإصلاح الديني البروتستانت التي ظهرت في أوربا في القرن الـ16 على يد مارتن لوثر، وقد تداخلت في هذه الحركة أساطير صهيونية وتوراتية مبنية على تراث العهد القديم، لذا ينظر الأمريكيون إلى إسرائيل على أنها شديدة الشبه بأمريكا، فهم يجدونها أمة مهاجرة ودولة مهاجرة، وملاذ المضطهدين، ونظاماً ديمقراطياً تظلله سيادة القانون.
وقد ألقى هذا التصور بظلاله على صانعي القرار في أمريكا سواء في البيت الأبيض أو مجلس الشيوخ، مما أعطى العلاقات بين البلدين بعداً أخر وأكسبها فرادة عن باقي العلاقات بين الدول، إضافة إلى نجاح الحركة الصهيونية ومؤسساتها في التغلغل في الداخل الأمريكي منذ انتقال مركز الثقل داخل الحركة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت قوة شعبية ذات ثقل سياسي واقتصادي تؤثر في توجيه السياسة الأمريكية تجاه المصالح الإسرائيلية وخاصة سياستها في الشرق الأوسط. الحركة الصهيونية تتجنب الانحياز لحزب دون آخر في النظام السياسي الأمريكي، لذلك تقوم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بسياسة انحياز مطلق، وذات شقين من ناحية يؤكد لإسرائيل التأييد لاستمرار وجودها، ومن ناحية أخرى يحاول أن يظهر للدول العربية وغيرها، أنه سيجري الرد على الأعمال العدائية التي تقوم بها.
واجهت إسرائيل منذ وجودها في المنطقة حرباً مفتوحة على الزمن ما دام الفلسطينيون عازمين على التحرير والحرية، وهذا ما شهدناه في حرب غزة، ورغم أن الفلسطينيين يدفعون ثمناً باهظاً لتلك الحرب من كل النواحي، إلا أن إسرائيل خسرت كثيراً من صورتها كملاذ أمن لليهود وضحايا الهولوكست، كشفت هشاشة القيم وهشاشة الجيش الذي لا يقهر، فهي تقاتل الأشباح، تخسر على الأرض ولا تكسب في السياسة، أكد ذلك أوستن في اليوم الأول للحرب على غزة (قد تكسب إسرائيل تكتيكياً إلا أنها ستخسر استراتيجياً). حرب لم تتوقعها إسرائيل لأنها اعتادت على حروب قصيرة تحسمها خلال أيام، خسائر بشرية واقتصادية ومعنوية، صراع داخلي وارتدادات خارجية، هذا ما لم تتوقعه الابنة الأمريكية غير الشرعية، فالصورة التي رسمتها لنفسها واستطاعت تسويقها في العالم، بدعم من حلفائها وشركائها الاستعماريين، كدولة ديمقراطية ودولة قانون وضحية للإرهاب الفلسطيني والعربي وإزالتها من الوجود، هذه الصورة تحطمت ولا يمكن إعادتها، فهي تواجه وضعاً لم يسبق له مثيل منذ قيامها: فوضى هستيرية داخل المجلس الوزاري المصغر، وعجز عن اتخاذ أي قرار سواء داخلياً أو خارجياً، وهو ما يعكس مدى التخلخل البنيوي في المؤسسة المجتمعية والعسكرية، ولكن لا مجال عن توقف حكومة نتنياهو عن السياسات العمياء التي لا يمكن لأحد التكهن بها.
كيف للخيال التوراتي في إسرائيل أن يستوعب ما حدث وما يحدث في غزة، في الضفة، في الجامعات وشوارع المدن الأمريكية والأوربية؟ خسرت إسرائيل الرأي العام العالمي الأمريكي وإلى حد بعيد الأوربي، وشكلت التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين ظاهرة يومية في دول العالم، وهو ما يمثل رفع الغطاء الأخلاقي عن إسرائيل، فهي لم تعد تلك الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الذي ينبغي محاكاته في دول المنطقة. إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت من المحكمة الجنائية الدولية، سابقة خطيرة تعرض قيادات إسرائيل للملاحقة القانونية، وأن تقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة هو عار لن تستطيع أن تمحوه، حتى لو القرارات غير ملزمة لدولة كانت دائماً خارج القانون، هذه مؤسسات دولية قائمة على القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، لطالما عملت إسرائيل على توطيد علاقاتها بها، دول تتمرد على الحظر في الاعتراف على الدولة الفلسطينية، فهذا يعني انقلاب الوضع الخارجي الذي كان دائماً في مصلحة إسرائيل.
ذلك الحلم بإقامة دولة إسرائيل من النهر إلى البحر قد تحطم تحت أقدام المقاومين في فلسطين، وحلت الأسطورة الفلسطينية محل الأسطورة الإسرائيلية، الهاجس الأمريكي بدا واضحاً في محاولة انتشال إسرائيل من بين الأنقاض، وعجز الإدارة الأمريكية في توفير شبكة أمان دولية تستند اليها إسرائيل في حروبها لتبقى معلقة على الفيتو، فكان التعهد بحمل السعودية على التطبيع، وطرح خارطة طريق جديدة من جو بايدن لوقف إطلاق النار، أمريكا في الموسم الانتخابي تنتهج منطقاً مزدوجاً ومتناقضاً في أمر الدولة الفلسطينية، فهي تحتفظ بموقف بما يؤمن رضا إسرائيل عنها، وأنها تريد دولة بمواصفاتها المطلقة، وبما أن الدولة العظمى حامية إسرائيل وداعمة لتشددها وإنكارها للحق الفلسطيني، فإنها تدرك أن إمكانيات التفاوض على دولة تبدو أمراً مستحيلاً، ولكنهم يستشعرون أن النهاية آتية لا محالة، نهاية الزمن الأمريكي والصهيوني.