الرهان الخاسر
د. نهلة الخطيب:
دول ضعيفة مفككة، مشتتة، مجتمعات متفرقة، بقايا بشرية تصر على البقاء ما تحت الزمن، دون أن يكون لها موطئ قدم على المسرح الدولي، دمى لا دور لهم في اللعبة الاقليمية أو اللعبة الدولية، خارج إطار النفط لا يوجد للدول العربية أي تأثير حقيقي على العالم، لا تصنع شيئاً، لا تسيطر على أي قطاع، إسهاماتها الأكاديمية ضعيفة جداً، فالمجتمع في أغلبه غير فعال، يعاني من الجهل المدقع والقهر، خبرتها العسكرية جد هشة، فالدول العربية في القرن الأخير كانت إما بدائية أو مستعمرة، كل ذلك تجلى في سياساتها، لا يوجد لها أي عقيدة أو مشروع وجودي تقوم عليه، لا يجمعها مصلحة مشتركة بغض النظر عن المغازلات القومية، فكل دولة عربية لديها ظروفها التي تؤثر على قدرتها على التحرك أو التفاعل مع الأزمات، تحديات داخلية أو تحالفات أو مصالح خارجية وتحديات مادية وجغرافية، قد تتجزأ لتقف في وجه الغرب وتساند فلسطين، ونظراً لتداعيات وتداخلات القضية الفلسطينية مع استراتيجيات دول كبرى، فمن مصلحة العرب المراوحة والحفاظ على الأمور كما هي، تجنباً للغضب الأمريكي والغربي.
تحولنا من شركاء في الصراع إلى وسطاء، لا يقوم العرب بأي خطوات تجاه إسرائيل بل بالرد العاطفي، أو الاعتماد على طرف آخر، ومن اعتمد على نفسه انتهى به المطاف إلى الحرب والتدمير كالعراق وليبيا وسورية. ما يحدث في غزة، للشهر الثامن على التوالي، حيث المذبحة الأشد هولاً في القرن، تجري أمام أعين الداني والقاصي، غرباً وعرباً، منظمات وهيئات دولية، هي امتداد لثقافة النكبة منذ 76 عاماً، ولو حدثت في أي منطقة في العالم لاهتزت هذه المنطقة، التعاطف لم يكن بحجم الكارثة، لا شيء سوى تعبير عن القلق والرفض، أو التحذير من العواقب، إحصاء الشهداء، بكاء وعويل على الجوعى، ومما يثير الدهشة أن الدول العربية تشاهد كل ما يحدث راهناً، لم تستجب بشكل قوي، أو لم تستجب على الإطلاق، وتستخدم أفعال حماس للتقاعس، والهروب من مسؤولياتها.
قمة عربية في البحرين عدد جديد في دوراتها 33 ليس غير، (بحضور غير مسبوق، بعيداً عن الخلافات والتجاذبات) فهل صدق أبو الغيط ونحن نعيش راهناً، أزمات سورية والعراق واليمن والسودان وليبيا ولبنان، تزامنت القمة مع الذكرى 76 عاماً للنكبة الفلسطينية، ذكرى يستقبلها الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار من كل عام, هذا اليوم بوصفه عنواناً لمأساتهم الوطنية والإنسانية والأخلاقية، كما يجددون سنوياً ومنذ عام 1948، وفي هذه المناسبة الأليمة تحديداً، رفضهم لعمليات الاقتلاع والتهجير والتشريد التي لحقت بالشعب الفلسطيني، الذي يعيش الآن نكبة ثانية في غزة في حربها المستمرة، بين نكبتين، غزة تحولت إلى جحيم، وغريب أننا لم ندرك من هي إسرائيل، إسرائيل المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ستدافع عنه بكل ما أُوتيت من قوة، جيرالد فورد وجسر من الأسلحة والذخائر، إقامة كيان عنصري غاصب وترسيخ وجوده على الأرض الفلسطينية، عصابات صهيونية متطرفة، سعت وما تزال إلى تشكّل حسب ما يدعون وطناً قومياً لليهود في العالم في أبشع عملية تطهير عرقي واغتصاب لم تشهد البشرية مثيلاً لها بحق أرض وشعب له تاريخه وجذوره العميقة الراسخة في أرضه، جرائم تصنف بأنها جريمة ضد الإنسانية، وذلك خلافاً لكل المواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية, ومع ذلك لا تتوانى إسرائيل اليوم عن إبادة آلاف من سكان غزة، فيما كثيرون آخرون لا يزالون تحت الأنقاض، وطرح علني لتهجير جماعي للفلسطينيين قسراً، ودفع مليونين من سكان القطاع إلى الصحراء، محاولة إسرائيل تغطية الفشل بارتكاب المذبحة تلو الأخرى، والرغبة في حسم الصراع بالقوة والتدمير والقتل، وخاصة أنها أمام مفترق وجودي، لكنهم أمام نوع أخر من الفلسطينيين، ظهر في الميدان القتال حتى الموت، لا دبابات ولا مدرعات ولا قوة بحرية، وفي ظروف تفوق التصور بأهوالها وبويلاتها، ليقولوا إن فلسطين ما زالت حية وستبقى حية مدى الدهر.
مخرجات هذه القمة ستبقى حبراً على ورق كما سابقاتها، اتخاذ قرارات وعجز في تنفيذها، سيكون هناك تنازلات كبيرة من حيث مطالب الدول العربية، لا سيما أن البحرين هي من الدول المطبعة مع إسرائيل، وفيها مقر الأسطول الأمريكي الخامس، تخلت عن دعم نضال الشعب الفلسطيني ووقفت في الخندق المعادي، والمؤكد أنها ودول عربية أخرى قامت بحماية إسرائيل عبر اعتراض صواريخ أطلقها اليمنيون والإيرانيون، ومشاركة طيارين عرب في العمليات العسكرية لقصف غزة ولبنان، فتحت مجالها لإيصال المساعدات لإسرائيل في الوقت الذي يعاني الشعب الفلسطيني من حصار مطبق، ولو كان هناك نية حقيقية لحماية الشعب الفلسطيني لكان هناك أدوات ضغط أخرى على أمريكا وظلها وحلفائها: (طرد سفراء وقطع علاقات وإمدادات النفط بالحد الأدنى)، طالما شكلت الجيوش لحماية العروش، إحدى الدول العربية حشدت ملايين المسلمين لمحاربة السوفييت في أفغانستان، وفعلت الأمر نفسه في سورية، والسؤال ألم تكن قادرة على فعل ما فعلته جنوب إفريقيا فقط كمثال؟؟!!
(كنا معروفين بكل بساطة بصفتنا اللاجئين العرب الذين هربوا لأن زعماءهم طلبوا منهم أن يهربوا)، حتى يظل التاريخ ماثلاً في الأذهان نعيد إلى الذاكرة نص الرسالة التي بعث بها عبد القادر الحسيني بطل معركة القسطل لجامعة الدول العربية عام النكبة 48، التي خذلتهم ولم تستجب لنداءات المجاهدين لتقديم العون والدعم العسكري لحسم المعركة لصالحهم بعد نفاد أسلحتهم، وحملها جزءاً من مسؤولية نكبة الفلسطينيين، نتنياهو أسقط كل ما جاء في بيان القمة ووضع الكثير من الدول العربية في موقف تاريخي حرج، فاضحاً حالة العجز التي تعاني منها الدول العربية والمرشحة للاستمرار لعدة عقود قادمة، ورغم كل تلك المواقف ما زال البعض ينتظر من الدول العربية دعماً للقضية، ونقول لهم رهانكم خاسر وخاسر، واليوم نزوح ما يقارب 800 ألف في رفح، والقادم ربما أسوأ، فلسطين تحتاج إلى شعبها، وما دام شعبها حي في وعيه وروحه، فلسطين ستبقى وتنتصر، كما فعلها الشعب الجزائري بعد 132 عاماً، فالشعوب هم أم الأوطان وليس العكس.