تقارب صيني فرنسي.. مقدمة لشيء جديد
د. نهلة الخطيب:
تتزايد الضغوط الدولية على الصين الشريك المقرب من روسيا لحملها على تخفيض التوتر في الأزمات الدولية الكبيرة، والانخراط في مساعي السلام في إطار النزاع الروسي الأوكراني والحرب الدائرة في قطاع غزة، الحرب في غزة ستختبر كيفية إدارة الصين الاقتصادية والسياسية وسط التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط والمقايضة عليها لتخفيف القيود التي تمارسها واشنطن عليها، وفرض نفسها كقوة عظمى بديل عن أمريكا بعد أن تضررت صورتها أمام العالم بسبب موقفها المنحاز جداً لإسرائيل، مع حرص الصين على موقف الحياد كما موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، ربما لإظهار صورتها لاعباً عالمياً محايداً ومسؤولاً لتحقيق مكاسب جيوسياسية وتعميق العلاقات مع الشرق الأوسط باعتباره مصدراً مهمّاً للطاقة وممرّاً لمشروع الحزام والطريق الضخم لتوسيع النفوذ الصيني وربطها بجميع أنحاء العالم، والذي توقف بسبب الحرب على غزة.
للمرة الأولى منذ خمس سنوات، وفي ظروف قد لا تكون مثالية، وقد تكون مناسبة لإذابة الجليد بين قوتين عالميتين لهما ثقل في موازين القوى العالمية، الرئيس الصيني يزور باريس حيث تستعر الخلافات بين الصين وأوربا، لقاء جمع تشي جين بينغ وماكرون وفوندرلاين، ماكرون الذي يقود أوربا ضد الصين، يقول: (التكتل لا يمكنه الابتعاد عن الصين، ولكن عليه حماية أمنه القومي)، وربما يكون اللقاء مقدمة لشيء جديد!!، واكتسب اللقاء أهميته من سخونة الملفات التي فرضت نفسها على أجندة اللقاء والوضع الدولي الأكثر تقلباً، وسط حالة التصعيد الكبيرة في الشرق الأوسط، ملف محتمل للمناقشة خاصة أن مواقف الجانبين كانت على طرفي نقيض في كل مرة، إضافة إلى مجموعة من الملفات العالقة، فالتجارة والحرب الروسية الأوكرانية تشكلان محور خلاف كبير بين الطرفين، نظرة الطرفين إلى معظم أزمات العالم مختلفة تماماً وخصوصاً في مناطق التوترات في الشرق الأوسط وأوربا وآسيا الوسطى وإفريقيا، فالتناقضات الكبيرة بين البلدين لا يمكن تجاوزها بسهولة في ظل تضارب الأجندات، فمن الواضح في المرحلة الحالية التقاطع في المصالح بين اللاعبين الأساسيين أكثر مما كان في السابق وتفوق خلافاتهما بكثير، خصوصاً في ظل حاجة الصين لفرنسا كدولة رائدة يمكنها وقف اندفاعات الاتحاد أكثر نحو الفلك الأمريكي.
العلاقات الأوربية الصينية تمر باختبارات صعبة، والهوة التجارية بين أوربا والصين إلى اتساع، كلٌّ يلوح بعصاه ويهدد وسط مطالبات متبادلة بوقف الابتزاز، ولكن منطقة أخرى تخضع لحسابات النفوذ بين الطرفين، فالمنطقة الإفريقية تواجه تمدداً صينياً، وسط انحسار ونكسة أوربية وفرنسية خصوصاً تمت في ثلاث دول إفريقية: النيجر، وبوركينا فاسو، والغابون، مع مطالبة دول إفريقية أخرى بإعادة العلاقة مع باريس بشكل مختلف، فالظرف الذي تعيشه فرنسا في إفريقيا يقابله توسع دبلوماسي وتجاري وعسكري صيني ، فالتغيرات السياسية كانت في صالح القطب الصيني الروسي، وهناك حالة من تقاسم الأدوار، بحيث تضمن الصين مصالحها الاقتصادية فيها لتظل أكبر شريك تجاري للقارة السمراء، وروسيا تضمن مصالحها الأمنية والعسكرية، توفر الحماية الروسية والأموال الصينية يخلق تنمية وفق رؤية صينية روسية، وهذا لا يعجب أمريكا وأوربا وخاصة فرنسا.
عام مضى على آخر لقاء جمع الرئيسين الصيني والفرنسي، حينذاك خرج ماكرون بتصريحات أثارت الجدل حول الاستقلالية الاستراتيجية الأوربية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وأن لا تتبع الولايات المتحدة بشكل كامل، لاقت ترحيباً من رئيس المجلس الأوربي، فهناك اعتقاد أوربي أن ترامب قد يعود إلى الرئاسة، وإن حدث ذلك فستجد أوربا نفسها محصورة في زاوية، ترامب صرح أكثر من مرة أنه يريد من القوى الأوربية والناتو وقف الدعم لأوكرانيا، وطالب أوربا بدفع الأموال مقابل الحماية الأمريكية، لذلك أوربا تحاول أن تبحث في خياراتها الاستراتيجية، والتغلب على التحديات الاقتصادية مع الصين من أجل معالجة المشكلات السياسية، وأن لا تعتمد على أمريكا فقط. إصرار ماكرون على التقارب مع الصين على صعيد التفكير الاستراتيجي، قد لا يجد أصواتاً تستمع إليه ولكنه اتخذ هذه المبادرة، ففرنسا اعتادت أن تلعب دوراً رائداً في العالم، وفي أوربا، تتبنى مجموعة من المبادرات، ربما تكون هذه إحداها، وأن تكون الصين بوابة حوار لفض النزاع الأوكراني الروسي تمهيداً لتسوية، وخاصة أن الصين تعتمد في سياستها الخارجية على القوة الناعمة ولا تهدف أن يكون لديها أي تصادمات مع أي قوة في العالم. الفرنسيون يحبون أن يظهروا بصورة قوية ستمنحهم الصين هذه الميزة وستأخذ الكثير من الامتيازات الاقتصادية وخاصة المتعلقة بإفريقيا، مقابل المحافظة على الحد الأدنى من إعادة التموضع الفرنسي في إفريقيا، وحفظ ماء الوجه.
فرنسا سبق أن طلبت من بكين ممارسة نفوذ أكثر من أجل وقف حرب أوكرانيا، لكن إجراءات لم تتخذ في هذا المجال، بل على العكس تطورت العلاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين في الحرب الروسية الأوكرانية، كانت الصين مع الموقف الدولي باحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها، لكنها تميل بشكل أو بآخر لروسيا وتتفق معها بانتقاد السياسات والهيمنة الأمريكية وتعمل معها لكسر الأحادية القطبية. الصين تأخذ خطوات ثابتة جداً ضد استراتيجية أمريكا على المستوى العالمي وتقدر الشركاء، وتسعى إلى تخفيض روابط القارة العجوز بأمريكا، هي لا تريد أن تخاطر بعلاقاتها الاقتصادية مع الغرب والتي تفوق علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، التي تربطها بها علاقات تتجاوز البعد الاقتصادي، علاقة شراكة استراتيجية لا يخفيها الطرفان، ولكنها لم تصل إلى مستوى حلف عسكري، لذلك نجد روسيا معنية أكثر من غيرها بهذه المحادثات وما سيتبعها من نتائج مرتبطة بشكل أساسي بالأحداث التي يشهدها العالم اليوم، وخاصة أن هناك لقاء مرتقباً بين الرئيسين الصيني والروسي. ميول ماكرون الديغولية ربما ستؤدي إلى شرخ في الاتحاد، وإعادة رسم للمصالح بين باريس وبكين، بينما في حلف آخر ألمانيا وبريطانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية، تسارع التحولات الجيوستراتيجية يعكس ويعزز تحولاً عميقاً، وهو صعود نظام محوره الصين، وليس خافياً على أحد التغييرات التي أصابت النظام الدولي.