دبلوماسية البطة العرجاء
د. نهلة الخطيب:
شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً للجدل في الدوائر السياسية والفكرية الأمريكية، حول أهمية الشرق الأوسط، وبسبب هذا التعارض في الاستراتيجيات والسياسات، تشكلت وجهات النظر والأفكار حول هذه القضية، منها ما يرى استمرار الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وقد ظهرت مبكراً، في رؤية ألفريد ماهان القائل: (إن الشرق الأوسط، سواء كمفهوم استراتيجي، أم كموقع على الحدود الجنوبية للبحر المتوسط وآسيا، هو مسرح مواجهة استراتيجية بين القوى المتصارعة التي تسعى للهيمنة على المجالات). ومنها ما يقلل من تلك الأهمية، بسبب تغير أولويات، ومصادر تهديد الأمن القومي.
وعلى الرغم من انتصار الاتجاه الأول الذي ينادي بأهمية الانخراط الأمريكي في المنطقة، وسعيها للبقاء كمحور استراتيجي متحكم فيها، وفي ضوء قناعة أمريكية بأن هذه المنطقة تعاني من أحداث وأزمات عميقة، تستند إلى أشكال التدخل الخارجي من قوى إقليمية ودولية، وعلى الولايات المتحدة أن تعيد التفكير مع أزمات وصراعات هذا الإقليم المضطرب، من دون أن يفرض ذلك عليها أعباء أمنية واقتصادية.
وبالرغم من ارتكاز الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على مجموعة من الثوابت، تتمثل بالتحكم بالنفط والسيطرة عليه، والحفاظ على أمن إسرائيل وحمايته، مما أدى إلى تغيير وسائل تحقيق أهداف الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، نحو الاستخدام المباشر للقوة العسكرية لحماية الأهداف والحفاظ عليها، وتحقيق أهداف جديدة، أصبحت من صميم هذه الاستراتيجية في المنطقة. أمن إسرائيل أصبح التزاماً وظيفياً على الإدارات الأمريكية باختلاف الحكومات المتعاقبة، وهذا ما أكده وليام جاي كار في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج): (إن الرؤساء جميعاً عملوا كأداة لخدمة إسرائيل)، بل، وإن جميع الاستراتيجيات الأمنية الصادرة من تاريخ أول استراتيجية للأمن القومي الأمريكي عام 1992، كانت تصب لخدمة إسرائيل. جون ميرشايمر وستيفن والت يقولان: (إن اهتمام السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، هي علاقاتها بإسرائيل).
الإدراك الاستراتيجي للإدارة الأمريكية، بدا واضحاً في صياغة تصوّر حقيقي استناداً لما يمكن تسميته بعوامل الثبات في السياسة الخارجية، لامتصاص التوترات والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وفي نطاق تعاطيهم مع الحلفاء الاستراتيجيين، والتي تدور جميعها في فلك حماية وتعزيز المصالح الاستراتيجية الأمريكية، إضافة إلى توجيه ردع ضد القوى المناوئة لها في ساحات التصادم الجيوسياسي في المنطقة (العراق وسوريا واليمن)، بالتوازي مع النفاق الإعلامي والسياسي، والقوة الناعمة، وتعزيز الأدوات الدبلوماسية، وبهذه الكيفية ترغب أمريكا ربط بعض الأزمات الاقليمية في المنطقة بعضها ببعض، خاصة تلك التي تشهد تدخلاً عسكرياً أمريكياً على مسرح الأحداث.
الاستراتيجية الأمريكية بدأت منذ تولي بايدن في ظل التغيرات القائمة في ميزان القوى العالمية، والتنافس الأمريكي الصيني، والحرب الأوكرانية، وما أحدثته من مستجدات في العالم، والهزات الارتدادية لأحداث غزة باتت تؤثر على الصراعات والاستراتيجيات الكبيرة في العالم، التي حولت إسرائيل من قوة توازن في المنطقة، إلى قوة مزعزعة له، ولكي تكون الاستراتيجية الأمريكية منتجة، يتعين عليها أن تنطلق من خلال تبني عدة مراحل، الأولى: إعادة صياغة أوضاع المنطقة، الثانية: إنهاء الصراعات بالتفاوض والاتفاقيات، والثالثة: إعادة الأمن في المنطقة، اعتماداً على الاتفاقيات عبر تحويلها إلى شكل مؤسسي.
وبعد أربعة أشهر من حرب غزة، فيما التورط الأمريكي على جبهات عدة في سورية واليمن والعراق، والاستعصاء الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وتحرير الأسرى، وتهجير سكان غزة، يخرج اليهودي توماس فريدمان بعد يومين من مقالته (فهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوانات)، لتجسيد الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، بمقالة في (نيويورك تايمز) تحدث عن نهج ثلاثي الأبعاد لـ(عقيدة بايدن) في المنطقة، رغبة منه الحفاظ على إسرائيل من الانقراض، البعد الأول: موقف صارم من إيران، وبضمن ذلك الرد الانتقامي على وكلائها في المنطقة، بايدن، دون أن ندري ما إذا كان يعاني من تراجع في الذاكرة، أو في قدراته العقلية، يريد أن يتجنب وقوع حرب في المنطقة، وهو من يشعلها، بالاعتداء والانتقام العسكري والاغتيالات، فيما يمدّ إسرائيل بأحدث الأسلحة، في تصريح ساخر لماريا زاخاروفا، على مقالة لبايدن حول التقدم الذي حققه في أوكرانيا وغزة: (هذا هو الواقع الذي لابد فيه، ليس من انتظار تحليل المقالة، بل نتائج تحاليل صاحبها).
في البعد الثاني بايدن الذي لم يتوقف عن التبشير بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، بعد إخفاقه في فرض وقف لإطلاق النار ووقف المذابح، إنها حل للاحل، ولا تتجاوز عتبة التمنيات، اعتادت أمريكا رسم الخرائط وإعادة رسمها، هو مطروح من مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وبقي حبراً على ورق، ولن تكون أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية مع نتنياهو وحكومته المتطرفة، فكيف تنجح دبلوماسية البطة العرجاء لبايدن!!
وأخطرها البعد الثالث: تحالف أمني واسع النطاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأمريكيين والسعوديين، التركيز على السعودية كدولة محورية ومؤثرة، من خلال التطبيع، وما لهذا التطبيع من تداعيات على الاتفاق السعودي الإيراني، وتهديد للمصالح الجيوسياسية لإيران، من هنا يبدأ الدور الإيراني في قطع الطريق على ذلك النهج، في رأي العديد من المحللين أن الشرق الأوسط، أمام طريقين إما الانفجار الذي يستتبع إعادة تشكيل الخرائط والدول والركام، لويدو أوستن يقول: (إن الوقت الراهن يمثل لحظة خطيرة في الشرق الأوسط)، أو وضع حد نهائي للصراع العربي الإسرائيلي، وهذا مرهون بالإرادة الوطنية الفلسطينية، وتوحيد الصفوف وفك الارتهان للأجندات الخارجية.
صراعات، حروب في كل مكان، ونسأل: ماذا فعلت الولايات المتحدة سياسياً للآخرين؟ فالسياسة الخارجية الأمريكية، كما سياسات القوى الكبرى الأخرى، مدفوعة بشكل أساسي باعتبارات الأمن القومي الملموسة، والتي ستكون دائماً هي العامل الحاسم والمحدد لهذه السياسات.
الآن رجلان وجهاً لوجه، بايدن وترامب، كلاهما خطر على العالم والشرق الأوسط، فماذا لو عقدت تسوية للصراع العربي الاسرائيلي، وخروج بايدن من آتون الشرق الأوسط، التي طالما رجاها، وعاد ترامب إلى البيت الأبيض؟؟ والنتيجة.. دبلوماسية البطة العرجاء!!