نظرية اليوم التالي

د. نهلة الخطيب:

لا شك أن إسرائيل تلقّت ضربة هائلة هزّت كيانها بعد عملية طوفان الأقصى، فضلاً عن الصراعات والنزاعات الداخلية بسبب أدائها الحكومي السيئ، والمخاطر الأمنية والوجودية، والتهديدات العسكرية التي تحيط بها من كل الجهات، وهذا ما يثير المخاوف الأمريكية (الدولة العميقة) على إسرائيل، من اندلاع أي حرب ستكون حتماً خارج السيطرة، وبالتالي فشل أمريكا بزرع إسرائيل في الشرق الأوسط، وضرب مخططها بالسيطرة على خطوط النفط والغاز، وفشل مشاريعها في المنطقة.

وبدا من اليوم الأول للحرب في غزة، أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد تطويق الصراع مخافة توسّع الحرب في المنطقة، وهي لا تريد التصعيد، سواء على الجبهة الشمالية مع حزب الله، أو مع الحوثيين في اليمن، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية كالمطرقة ترى كل شيء كالمسمار، لا تستطيع مقاومة إغراء القوة، وتريد ممارسة مزيد من الضغط السياسي والدبلوماسي، وخلق بؤر توتر هنا وهناك، تزداد سخونة يومياً، فبدل أن تتعامل مع الوضع بمجمله، وتتعامل مع جذور المشكلة، تعمل على أن لا يكون هناك خطوط حمراء لإسرائيل، تسمح لها بممارسة مزيد من المجازر، وعمليات التهجير والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، دون مراقبة أممية ودولية، متسلحة بالفيتو، فالخطاب الناعم التصالحي، متعاكس، وغير منسجم مع ذاته، فأمريكا لا تريد الحرب، في الوقت الذي تمارس فيه القوة، وتذهب إلى مزيد من التصعيد على المستوى الاقليمي، وتهدد بقصف إيران، وجنوب لبنان، والحوثيين، ومارست إسرائيل مدعومة من أمريكا سياسة الاغتيالات والتصفية، ونفذت موجة من الاغتيالات، ضد كوادر محور المقاومة، في لبنان وسورية، إضافة إلى الضربات الأمريكية والبريطانية ضد الحوثيين في البحر الأحمر، وهذا وضع ايران في موقف الدفاع، فتم ضرب أهداف لجماعات جهادية، صنيعة الموساد الإسرائيلي، في سورية والعراق، في رسالة لإسرائيل، عن الاستعداد لمواجهة موسعة وكبيرة، فالوحيد الذي يمارس العنف ضد جبهات متعددة، هي أمريكا، وهذه نظرة فيها قصور، ولا تخدم مصالحها على المدى البعيد. وقد شهدنا تراجع التأييد لأمريكا عالمياً. ما هو قادم خطير جداً، واذا استمر التصعيد سيكون له تداعيات على بلدان وشعوب وأنظمة، لا أحد يعلم الى أين تتجه، وكأنهم يدفعون الأمور الى خيار اللاعودة.

بعد مئة يوم من الحرب في غزة، انقلب السحر على الساحر، وتغيّرت المعادلة، لأن العملية بحد ذاتها انقلبت، من لعبه أمريكية لترحيل الفلسطينيين، إلى مصر وسورية ولبنان والأردن، إلى كارثه أكبر من حجم أي مخطط، بسبب الصمود الفلسطيني والتمسك بالأرض، وانقلب الصراع لنظرية اليوم التالي، حول الشرق الأوسط الجديد، ومستقبل غزة، وتجديد الاحتلال الاسرائيلي لها، في الوقت الذي تواجه أمريكا رفضاً من لاعبين دوليين آخرين، كالصين وروسيا وايران وحلفائهم، وبعض الدول الأوربية القلقة من حرب أوكرانيا، التي تسعى لعقد مؤتمر دولي للسلام تنظم من خلاله الشرق الأوسط، وإصدار قرار بالرعاية الدولية للقضية الفلسطينية، يدعم حل الدولتين، ويفشل المشروع الأمريكي بالمنطقة، وهذا متوقف على نجاح جنوب افريقيا باستصدار قرار بالدعوى التي رفعتها، في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، والتي نتائجها ملزمة لمجلس الأمن، وبالتالي وقف إطلاق النار في غزة، تراقبه هيئات دولية واقليمية وتعطل الفيتو الأمريكي. وهذا ما لا يروق لأمريكا، لأنه يعزز التعددية القطبية، في نظام عالمي جديد، ولو اضطرت لشن حروب شاملة للحفاظ على القطب الواحد والهيمنة على أوربا والعالم.

الشرق الأوسط على مفترق طرق، مع غياب حالة عربية للتعامل مع الاحتمالات التي سيواجهها، أو حتى التأثير عليها، فالشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة التي أعلن الأمريكيون رغبتهم في ملء الفراغ فيها، كأن لا بشر ولا دول على أرضها، مع يقينهم أن التطبيع سينطلق بديناميكية أقوى، بعد الحرب، وهو المنطقة الوحيدة، في العالم التي تحتوي أكبر عدد من القواعد العسكرية الأمريكية، لحمايتها، أو حماية حقول النفط، وشرايين الطاقة ومنابعها المتمركزة فيها، إضافة إلى الأهمية الجيواستراتيجية التي تتمتع بها، وربما أكبر قاعدة عسكرية زرعتها في المنطقة، هي إسرائيل، لرعاية مصالحها كوديعة أمريكية، التي عملت على إنشاء مشروع نيوم، والاتفاق الهندي الأمريكي الخليجي، الذي ينتهي بميناء ايلات وميناء العقبة، وبذلك تكون تركيا وايران خارج اللعبة، ولا يخفى على أحد مشاريعهما في المنطقة، فاصطدمت المشاريع، لصراع أكبر من غزة، وهذا الصراع بين إسرائيل وتركيا وايران، ومن هو اللاعب الإقليمي المركزي في المنطقة؟ طبعاً تركيا أطلسية الهوى، تبقى إيران بمواجهة إسرائيل الراغبة بهذه المواجهة. الأمور ذاهبة لتنظيم الأشياء في إطار حرب طويلة نسبياً وخاصة بعد تصريحات لجنرالات إسرائيليين، (أسوأ المفاجآت، ما دامت  كرة النار في يد ثلّة من المجانين)، أن الحرب لن تنتهي قبل عام 2025، طبعاً الحرب إقليمية ودولية، تتضمن من جهة: إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى إلى ضبط هذا النزاع لكيلا يتحول إلى مأساة بشرية، وخاصة أنها على أبواب انتخابات رئاسية قادمة، وإيران ومحور المقاومة من جهة أخرى، وروسيا والصين ستدعمان إيران لاستنزاف أمريكا، اقتصادياً، وعسكرياً، وسيكون مصلحة استراتيجية لهما بدخول أمريكا مستنقع الحرب في الشرق الأوسط!!! مما يحمل دافيد أغناثيوس على التساؤل: ما رأي البنتاغون، المنشغل حالياً، في الحرب ضد المجهول، بل وضد المستحيل، في اليمن؟

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025