فلسطين قامت… حقّاً قامت!

د. نهلة الخطيب:

العالم كلّه مشدود الأنظار نحو الشرق الأوسط، وبالتحديد إلى قطاع غزة، بسبب ما جرى بعملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول)، أكثر العمليات تعقيداً، والمفاجأة الكبرى والإذلال الذي حصل لإسرائيل، وضرب أسس إسرائيل وأهدافها بالمنطقة، الأمر الذي لا يمكن أن تقبله إسرائيل، فلا يمكن إلا أن يكون خطابها بالحد الأقصى، فإسرائيل اليوم في أزمة وجودية، والموضوع يتعلق بأمن الدولة واستمراريتها.

في البعد السياسي، نتنياهو يريد بالحد الأقصى تدمير حماس بالكامل وخلق واقع سياسي جديد، وهنا تبدأ الصعوبة، والارتباك الاسرائيلي واضح، فهم يقاتلون الأشباح بشهادة جنودهم. عندما تريد الحد الأقصى من الضروري أن تؤمن الوسائل، فالهدف كبير والوسائل محدودة، بايدن ينطق بلسان المؤسسة الأمريكية يقول مستقبل الشعب اليهودي في خطر، فكان الدعم الأمريكي لإسرائيل غير محدود، بالتوازي مع الردع.

تحقيق الأهداف عملية صعبة وليست مستحيلة، وهذا مرتبط بالمدى المسموح لإسرائيل دولياً وأمريكياً، والرأي العام الغربي الذي أيد نتنياهو إلى أي مدى قادر على الصمود، وأخيراً المدة الزمنية لإنهاء هذه العملية والتكلفة، لكن ماذا لو تبدل الوضع في الجبهة الشمالية وجبهة سورية والحوثيين والفصائل العراقية، فالتعقيدات كثيرة والفاعلون كثر فيها.

الوجود العسكري الأمريكي الضخم في المنطقة متعدد الأبعاد، أولويته إنقاذ إسرائيل والسماح لها بالتحرك ضمن حدود معينة، شرط أن لا تتجاوزها إلى مغامرة غير محسوبة تعرض مصالحها وأهدافها للخطر، صحيفة نيويورك تايمز تقول اليوم: (الأمريكيون يقولون لنتنياهو التروّي بأي عملية عسكرية، فأمريكا تخشى من أن تجرّها إسرائيل إلى حرب إقليمية موسعة).

المنطقة على صفيح ساخن والسباق بين الدبلوماسية والعسكرة على أوجه، لعل توجه سفن إسرائيلية إلى البحر الأحمر يزيد الأمر تعقيداً، إذ إن الاحتلال يريد توريط دول الأطلسي بحرب مباشرة ليست ضد الحوثيين فحسب، وإنما ضد إيران التي دخلت المنطقة عبر البوابة الفلسطينية، وتتهمها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بأنها هي من يضع الإطار العام للمعركة، وأنها خلف الهجمات الحوثية في البحر الأحمر. فالزلزال الوجودي الذي ضرب إسرائيل وضع الدول الأطلسية أمام واقع جديد يفترض معالجات أمنية وسياسية أوسع من رقعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصاً بعدما فتحت جبهات أخرى ولو بنسب متفاوتة من اليمن ولبنان والعراق.

تحالف حارس الازدهار تحالف دولي أطلسي الجوهر، أعلن عنه وزير الدفاع الأمريكي لود اوستن أثناء زيارته إلى إسرائيل، الهدف المعلن وراءه حماية الملاحة البحرية والتجارة الدولية في البحر الأحمر، وحسب اوستن (أن الحلف تشكل تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة قوة المهام المشتركة، كردٍ على هجمات الحوثيين من اليمن ضد السفن المتجهة لإسرائيل). واعتبره موضوعاً دولياً يجب الرد عليه دولياً، أوربا ما هي إلا أداة أمريكية وإسرائيل مسيطرة على العقل الأوربي. ويبدو هذا التحالف مستغرباً، لأن الخطوط الملاحية آمنة لكل السفن باستثناء المرتبطة بإسرائيل، ومكان الإعلان عنه له رمزيته ورسائله الخاصة، فهو خطوة لتأكيد الوقوف إلى جانب إسرائيل رغم كل الجرائم التي ترتكبها في غزة، والضغط على مصر عبر إغلاق قناة السويس وحرمانها من 30 مليون دولار يومياً، لقبول فكرة الوطن البديل للفلسطينيين في سيناء، (فالبنية العقائدية التوراتية لإسرائيل هي بنية ترحيل، وإسرائيل دولة صافية ليس من الآن بل منذ المؤتمر الصهيوني الأول 1897، وإذا قامت الدولة الفلسطينية فهي خنجر بخاصرة يهوا، بخاصرة الله، هناك مساحات كثيرة بالوطن العربي لإيواء الفلسطينيين بالعراق وسورية ومصر)، فالمنطقة العازلة جزء من لعبة الخرائط، واقتطاع الجنوب اللبناني وشمال الليطاني، وترحيل عرب الجليل إلى لبنان. فلسطين مهددة بنكبة أخرى، مصر فقدت دورها منذ اتفاقيات كامب ديفيد فأين مصر؟؟ مصر استوعبت واستعمرت!!

حارس الازدهار يحمل أيضاً رسالة تحذير للحوثيين وإيران، ويمهد لأمر أكبر من ذلك لتعزيز أسس الأمن بناءً على خرائط تجارية وملاحية جديدة بذريعة الحماية، فصراع المصالح بذروته، وهذا طرح منذ الاتفاقات الإبراهيمية والضغط الأمريكي لتسريع عملية التطبيع العربية الإسرائيلية، وطرح بايدن إقامة خطوط الممر الاقتصادي يعزز الشرق الأوسط الجديد الذي روج له نتنياهو.

لعبة الخرائط وصلت إلى النهائيات، والموضوع ليس غزة، وهي آخر خط دفاع لتغيير خارطة الشرق الأوسط، وهي البوابة إلى مرحلة جديدة في المنطقة، في المنطقة مشروع أمريكي فقط، ونحن جزء من هذا المشروع، فهذه الثقافة الأمريكية، ثقافة الهنود الحمر مسيطرة على العقل السياسي الأمريكي، دولة فرضت فلسفة حياتها وثقافتها بالعولمة والتكنولوجيا وهيومن رايتس، ولم تستطع أن تواكب المسار الأخلاقي بالمسار التكنولوجي، فما زالت تستخدم القوة والقتل بدم بارد.

لا قيم تحكم السياسات الأمريكية، فعندما تتحرك يتغير العالم، في الحرب العالمية الأولى تدخلت، فأنشأت عصبة الأمم وغيرت خارطة أوربا، وفي الحرب العالمية الثانية تحركت، ضربت اليابان بالنووي وهزمت ألمانيا وغيّرت العالم، وأقامت نظاماً عالمياً جديداً، وفي 11 أيلول تحركت وتدخلت في الشرق الأوسط وغيرت المنطقة بالفوضى الخلاقة، ولكن دائماً الحسابات الخاطئة تذهب إلى مكان أخر. فاستراتيجيتي مبنية على استراتيجيتك، أنا أبني ما أنت عليه الآن.

غزة هزت أمريكا كما إسرائيل، قتلوا كل شيء إلا الروح الفلسطينية، وقيام دولة فلسطينية، هو نفي، هو النقيض، والقاتل للدولة اليهودية، فليس هناك حل دولتين، حماس الموجودة ضمن حيز جغرافي محاصر امتلكت ترسانة عسكرية لا يستهان بها، فكيف إذا قامت دولة فلسطينية منزوعة السلاح فإلى متى ستبقى منزوعة السلاح؟؟؟ إسرائيل، التي لم ولن تستطيع تدمير الذاكرة الفلسطينية، والوعي واللاوعي الفلسطيني، فهناك عصبية وحالة زلزالية فلسطينية ساهمت في صناعة الوعي، وعي وطني فلسطيني، (ولكننا مصابون بحب هذه البلاد، فهذه البلاد تخصنا بحروبها وجياعها وبصمتها المكسور)، فلسطين قامت.. حقّاً قامت!

العدد 1140 - 22/01/2025