ناغورني كاراباخ في الفصل الأخير للصراع
د. نهلة الخطيب:
بعد ثلاثة عقود من الصراع بين الجارتين القوقازيتين أرمينيا وأذربيجان، أُعلِن زوال جمهورية ناغورني كاراباخ المعلنة من جانب واحد من الوجود، بدءاً من مطلع العام المقبل، وذلك بمرسوم أصدره زعيم الإقليم بعد أن استعادته أذربيجان بهجوم عسكري شنته في 19/9/2023 للتغلب على الانفصاليين وأدى إلى نزوح غالبية سكان الإقليم إلى أرمينيا، واتهم رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان أذربيجان بارتكابها حملة تطهير عرقي ضد الأرمن وانتهاكات لحقوق الانسان، في الوقت الذي دعا به الرئيس الأذربيجاني الأرمن البقاء في الإقليم مع ضمان حقوقهم.
لا تنحصر العلاقات المتوترة بسبب إقليم كاراباخ بالطرفين الجارين، بل تتعداهما إلى عدة فواعل جيوسياسية أخرى خاصة المجاورة لهما روسيا وتركيا وإيران، فهل يكون هذا هو الفصل الأخير للصراع أم حرباً مفتوحة؟
ناغورني كاراباخ إقليم جبلي يتوسط أرمينيا وأذربيجان مساحته 4400 كم2، ويندرج النزاع بين الطرفين كأطول النزاعات الإثنية الانفصالية وأكثرها دموية، قاربت قرناً من الزمن، وتراوحت بين الهدوء والتصعيد مرات عديدة، وهناك طرحان تاريخيان متناقضان حوله، فأرمينيا تسوق لفكرة أن الإقليم هو جزء من أرمينيا القديمة ومن إمارة أرزاخ، وأذربيجان تسوق لفكرة أن الإقليم تابع لها وتم استيطانه من طرف الأرمن في العصور القديمة، وبما أن الغالبية السكانية هي من الأرمن ما يقارب 95% من مجموع سكان الإقليم والذي يتراوح (150ألف نسمة) فإنهم يشعرون بالظلم التاريخي ما داموا تابعين للسلطات الأذربيجانية، الأمر الذي جعل رغبة الانفصال ملازمة لهم سعياً لوضعه تحت السيطرة الأرمينية.
يعود هذا الصراع إلى عشرينيات القرن الماضي عندما صدر قرار من الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين بإنشاء منطقة للأرمن تتمتع بالاستقلالية وتظل تابعة لجمهورية أذربيجان السوفييتية، ورغم أن الإقليم معترف به دولياً أنه تابع لأذربيجان إلا أن أرمينيا ظلت تطالب بضمه من أجل توحيد بلادها، وزادت حدة النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في عام 1987. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 دخل الطرفان حرباً على الإقليم (حرب كاراباخ الأولى)، ومع الدعم الروسي لأرمينيا انتهت بهزيمة أذربيجان واحتلال أرمينيا سبع مقاطعات محيطة بأذربيجان أي ما يعادل 16% من الأراضي الأذربيجانية والسيطرة الكاملة على إقليم كاراباخ، الذي شكل نصراً استراتيجياً للأرمن، وخاصة بالسيطرة على ممر لانشين الذي يربط أرمينيا بكاراباخ، تم تسوية النزاع عام 1994 بوساطة روسية، التي أصبحت مع مرور الوقت وتغير سياساتها تميل إلى التوازن وإقامة علاقات ودية مع الطرفين. ظل التوتر والعنف على مستوى الخطاب السياسي ثم تأجج الصراع الذي مر بمراحل مد وجزر في عام 2020 واستعادت أذربيجان الإقليم ومعظم أراضيها وانتهى بخسارة أرمينيا، وبوساطة روسية والتنسيق مع تركيا تم الاتفاق على عودة الإقليم إلى أذربيجان وانسحاب القوات الأرمينية ونشر قوات حفظ سلام روسية في منطقة النزاع، وبذلك يكون تغير الوضع الراهن للسيادة على الإقليم ثلاث مرات على الأقل، الاتفاق لم يصنع سلاماً كاملاً، وكان تفكيراً أمنياً وتجميداً للصراع دون التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، وظلت القضية محل خلاف وتهديد مستمر بإمكانية تصعيد الصراع العسكري بينهما في أي وقت، وكان هناك العديد من بنود الاتفاق لم تنفذ وأهمها نزع سلاح المجموعات الأرمنية المسلحة وفتح وتبادل الممرات البرية، والسبب المباشر للتوتر الأخير اجراء انتخابات رئاسية من أرمن الكاراباخ وهو ما نظرت اليه أذربيجان بأنه استفزاز، فكان إعلانها عن بدء عملية عسكرية لمكافحة الإرهاب واعادة الهيكلية الدستورية لأذربيجان.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي، ما تزال روسيا الضامن الأمني الأول بمنطقة جنوب القوقاز، إلا أن الموقف الروسي مثل العديد من المواقف الدولية التي تربطها بعلاقات مع أرمينيا وأذربيجان تميل إلى التوازن، فكما لها علاقات مميزة مع أرمينيا التي تدخل في كل تحالفات روسيا العسكرية والاقتصادية الإقليمية والدولية، وروسيا هي المستثمر الأول في الاقتصاد الأرمني، ولها قاعدة عسكرية على الأراضي الأرمنية وحرس الحدود الروسية هي من تحرس الحدود الأرمنية مع تركيا وايران، كذلك لها علاقات وشراكات استراتيجية مع أذربيجان في قطاعات الطاقة وخطوط النفط والغاز وثروات بحر قزوين، وروسيا تزود أذربيجان بأكثر من 35% من وارداتها العسكرية. ولكن مع وصول حكومة أرمينية موالية للغرب إلى السلطة بعد الثورات الملونة متمثلة برئيس الحكومة باشينيان وانتقاداته التي باتت مرتفعة في الآونة الأخيرة للدور الروسي بهذه الأزمة بسبب عدم تدخلها ضد أذربيجان في محاولة منها لفرض ضغوط على روسيا، بادرت أرمينيا بتدويل الصراع وقدمت شكوى إلى مجلس الأمن والاستنجاد بالقوى الدولية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي التي تعتبر روسيا منافساً لها في جنوب القوقاز، فعملت على استغلال ذلك لزعزعة العلاقة بين أرمينيا وروسيا وخلق بؤرة توتر أخرى لاستنزاف طاقة روسيا وإزالة البصمة الروسية في أرمينيا، ويؤشر ذلك إلى إعادة توجيه بوصلة سياسات أرمينيا نحو بناء علاقة مع الغرب كبديل استراتيجي للتحالف مع روسيا، وهذا ما أكده باشينيان بقوله: (إن اعتماد أرمينيا على حليف واحد وهي روسيا كان خطأ استراتيجياً)، وأن روسيا اختارت لعب دور السلام فنجد أن موقفها محايد في ظل انشغالها اليوم بالأزمة الأوكرانية والعقوبات الغربية على اقتصادها.
من الواضح أننا نتجه فعلياً إلى الفصل الأخير الذي سيكون علامة فارقة ومهمة في تاريخ الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، بسبب الظروف الدولية والإقليمية التي لا تصب في صالح أرمينيا، فحليفها الرئيسي روسيا منشغلة بالحرب، والاقتصاد الأرمني ضعيف، واعتماد أرمينيا على أذربيجان بشكل كامل أمنياً كان خطيئة كبرى، ومراهنتها على الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التي اقتصرت على الإدانة لانتهاكات حقوق الإنسان، وبالمقابل نجد أن المعطيات والمتغيرات تصب لصالح أذربيجان، إضافة إلى أن البيئة الدولية الحالية مواتية لها بالفعل روسيا والغرب وايران وتركيا تريد الحفاظ على علاقات طيبة معها، فأذربيجان دولة مصدرة للنفط والغاز وتغطي 5% من حاجة الاتحاد الأوربي لها بعد خفض الاعتماد على الغاز الروسي، وأيضاً الدور التركي الداعم والمتنامي بشكل كبير لأذربيجان، وبذلك نجد أذربيجان تسير نحو بسط سيطرتها على الإقليم وفق القوانين الدولية، إذ إن هنالك ثلاث قرارات من مجلس الأمن تؤكد حق أذربيجان في هذه الأراضي، واعتراف علني أرمني جاء على لسان رئيس وزرائها بسيادة أذربيجان على الإقليم، وما فعلته أذربيجان هو استعادة أراضيها، وهذا يعد سابقة بعد الحرب العالمية الثانية، ولأول مرة تستطيع دولة استعادة أراضي محتلة بعد مرور أكثر من 30 عاماً بالقوة العسكرية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن على الرغم من وجود الكثير من هذه القرارات تتعلق بأراضٍ محتلة ومازالت حبراً على ورق، وقد تكون رسالة لكل الأزمات الانفصالية في المنطقة، وإن غداً لناظره قريب.