أزمة الهوية تتصدر المشهد؟؟!!
د. نهلة الخطيب:
يرى المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون في نظريته (صدام الحضارات)، أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط المعسكر الشرقي في تسعينيات القرن الماضي، حدثت نقلة نوعية على مستوى الصراع في المجتمع الدولي، فلم تعد الحروب حروب إيديولوجيات بل حروب هويات ثقافية، إذذ قال: ( إني أرى أن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد سيكون بالدرجة الأولى عقائدياً وبالدرجة الأولى اقتصادياً، وستكون التباينات الكبرى بين البشر والمصدر المهيمن للصراع ثقافية، وستظل الدولة القومية أقوى اللاعبين في الشؤون العالمية وسوف يسود صدام الحضارات السياسة العالمية)، وقسم هنتنغتون العالم إلى تسع حضارات الغربية والأرثوذكسية والإسلامية والافريقية والصينية والهندوسية والبوذية واليابانية والأمريكية اللاتينية، وتوقع أن تشكل هذه الانقسامات الحضارية العلاقات بين الدول بعد نهاية الحرب الباردة، وحسب هنتنغتون سقوط المعسكر الشرقي هو انتصار لليبرالية التي يحقّ لها أن تسيطر وتهيمن على جميع دول العالم وتعيد صياغتها وفق معاييرها.
وبالعودة إلى تعريف الهوية التي هي تراكم ثقافي وفكري واجتماعي تمر بمراحل وتحولات عدة لتأخذ هيكلها من عادات وتقاليد وقيم وسلوكيات وحكم وأمثال، إذاً، هي خلاصة تجارب هذا المجتمع واستخلاصها، ولكل مجتمع هويته الثقافية والحضارية والتاريخية الخاصة به تتمثل في عاداته وحكاياته وقصصه وأشعاره وأغانيه وأهازيجه، فهو كالبصمة الخاصة التي يتميز بها هذا المجتمع عن غيره، والذي يحدد الهوية الحضارية مجموعة عوامل أهمها اللغة والدين والتاريخ والأعراف الاجتماعية، ويلعب الدين في نظر هنتنغتون دوراً أكثر فاعلية من غيره في العلاقات والصراعات في القرن الحادي والعشرين، فقد قال: (مع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي وسقوط الحركات الشيوعية العالمية العدو المشترك للغرب والإسلام، سيحل محل ذلك نضال جديد تدور رحاه بين عدوين لا يمكن التوفيق بينهما: الإسلام والغرب). إذاً جوهر الصراع الحضاري الذي يفترضه هنتنغتون الإسلام كعدو في مواجهة ولا سبيل إلا حتمية مواجهته، وهذا ما شهدناه في حروب الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، والصراع في أوربا بين البوسنة والهرسك.
صراعات تعبر عن تزاحم للهويات في ظل ظهور ربيع الحركات الشعبوية، والعولمة والانفتاح الكبير التي تدعو إلى الغاء الهويات الصغيرة، والتي أدت إلى نتائج عكسية، فأصبح خطاب الخصوصية الثقافية والهوية القومية يشكل إيديولوجيا تحتمي به المجتمعات المهمشة لتحصين نفسها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الآخر، ولهذا تولد التنافس والصراع بين الثقافتين الغربية والإسلامية بالرغم من أن العالم الإسلامي يفتقد لقواسم مشتركة تجمعه وهناك فروق واختلافات لا حصر لها فيه.
الفوضى الراهنة في فرنسا عقب مقتل نائل، الفتى الجزائري، برصاص شرطي عنصري هي نموذج لصراع هوياتي ديني وثقافي محتقن وقد يصل إلى حرب أهلية. بعدما فتحت لمئات آلاف المهاجرين وبالأخص العرب الهاربين من القهر السياسي والاجتماعي في بلادهم، لم تفلح فرنسا في إدارة هذا التنوع وانتزاع ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية ورسم إطار للتعايش بين مختلف الهويات المتعددة وإدماجهم، فتزايد شعورهم بالكراهية وبالإقصاء الجماعي وبأنهم منبوذون من المجتمع الفرنسي، الأمر الذي أثار النقاش حول سياسات وممارسات الدولة والشعب الفرنسي تجاه المهاجرين الموسومة بالعنصرية، فقد حذر أكثر من مرة مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في بياناته الرسمية من استفحال هذه الآفة وطالب بوضع حد للتجاوزات العنصرية في أوساط المهمشين في الضواحي الفقيرة. بعد مقتل نائل تحدثت بعض صحف اليمين عن (صيحة ثأر تستوطن اللاوعي الجزائري)، ولكن هل كل هذا جال في رأس ذلك الفتى الجزائري المراهق الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، ولو كان على قيد الحياة لما شارك في هذا الصراع.
وفي حادثة هي الثانية في السويد بعد ستة أشهر من قيام راسموس بالودان اليميني المتطرف بحرق القرآن، قام شاب سويدي من أصول عراقية (وهو مفكر وكاتب ملحد وينتمي إلى حزب ديمقراطيي السويد SD)، بحرق نسخة من القرآن في أول أيام عيد الأضحى، بعد حصوله على ترخيص من الشرطة السويدية بتنظيم تظاهرة للتعبير عن رأيهم بالقرآن وتمزيقه وحرقه وانتقاد الإسلام كدين، حرق القرآن عند المسلمين عمل حساس للغاية ما له من أهمية روحية ودينية هائلة لديهم ويثير غضب ملايين المسلمين في جميع أنحاء العالم ويرى البعض أن هناك دوافع سياسية وراء هذه الأعمال وهو استفزاز تركيا التي تمنعت على قبول السويد في حلف الناتو بعد رغبة الأخيرة بالانضمام للحلف وزيادة تعاونها الأمني معه، وقد أحدث حرق القرآن ضجة كبيرة وتوالت ردود الفعل العربية والإسلامية والدولية منددة بهذا التصرف كفعل من أفعال الكراهية والعنصرية ومظهر من مظاهر الإسلاموفوبيا المحرضة على العنف والإساءة للأديان، البعض يراه انتهاكاً لحقوق الإنسان واعتداء على مبادئ الحرية الدينية وقيم التسامح والتعايش السلمي واحترام التنوع واختيار الإنسان لمعتقداته في مجتمع متعدد الثقافات، وقد يساهم في تعميق الانقسام بين المجتمعات الدينية والثقافية المختلفة ويؤثر على العلاقات الدبلوماسية والاحترام وبناء الثقة بين الدول. بينما يراه آخرون شكلاً من أشكال الديمقراطية، وهذا ما قاله رئيس الوزراء السويدي عند حرق القرآن في المرة الأولى رغم تعاطفه مع المسلمين الذين شعروا بالإساءة بسبب هذه الأعمال: (حرية التعبير جزء من الديمقراطية ولكن ما هو قانوني ليس بالضرورة أن يكون ملائماً)، وبالمنطق نفسه أدانت الولايات المتحدة الأمريكية هذا العمل في تصريح صحفي للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل (لطالما قلنا إن إحراق نصوص دينية سلوك عديم الاحترام ومسيء، وما قد يكون قانونياً ليس بالضرورة لائقاً).
حرية الرأي وحرية الفكر التي يدّعيها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحمل ازدواجية على كل الأصعدة وخاصة فيما يخص العرب والمسلمين، عقوبة معاداة السامية تطبق على كل من يتضامن سياسياً أو إعلامياً وينتقد جرائم وانتهاكات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وخاصة اعتقال الأطفال دون سن الـ12، واقتحام البلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية وتشريد أهلها وقتل شبابها وأطفالها سياسات منهجية قديمة ومتأصلة ذات طبيعة استيطانية وعنصرية تتفاوت توقيتها وتتنوع أغراضها طبقاً لاعتبارات طارئة وأخرى دائمة، الحرب الحالية التي تشنها حكومة التطرف والتشدد والفاشية في ائتلاف نتنياهو ضد الفلسطينيين في جنين كان لها صفة دينية من خلال تصوير الجنود والضباط في مشاهد صلوات وخضوع وأدعية تناشد المباركة في المعركة، ولو استخدم العرب قوتهم الاقتصادية وليس العسكرية ضد كل من يسيء لهم ولمعتقداتهم لاحترم الغرب مقدساتهم، ولكنهم يدركون أن المسألة لا تتعدى التنديدات والشجب والاستنكار واستدعاء السفراء وهم صمّ بكم لا يفقهون.
يتحدث السياسيون البارزون اليوم بلغة صدام الحضارات من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحتى الدول الأوربية التي تحتقر الحضارات والثقافات الأخرى وتنظر إلى الشعوب غير الغربية بنظرة استعلائية، نظرية هنتنغتون حول صدام الحضارات مدرسة فكرية وضعت حجر الأساس لاستراتيجية بعيدة الأمد للمجتمع الأمريكي لضمان قوته وحماية مصالح الحضارة الغربية في الطاقة والأسواق، وتفادي المنافسين في منطقة الشرق الأوسط وأوربا باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة التي لها هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية مطلقة في العالم وتضرب بكل مكان، قامت على القتل والتنكيل أليست من أباد الهنود الحمر كما تفعل إسرائيل بالشعب الفلسطيني، وتتعامل مع حلفائها ومع أعدائها كونهم عبيد الإمبراطورية الأمريكية، تعمل لتقويض الاستقرار الأوربي كما تعمل لتقويض الاستقرار الروسي، وليتعذب من يتعذب وليحترق من يحترق! وتزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية دليل على ما أسلفت، فهل هذه الحوادث أزمات هوية تستحضر قراءات هنتنغتون حول صدام الحضارات؟!