في الذكرى الخمسين لتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية.. الواقع والمهام وعوامل النهوض

  م. نوفل عدوان*:

في الاجتماع الدوري لفرع الجبهة بالسويداء لشهر شباط 2022، تقرّر إحياء الذكرى الخمسين لتأسيس الجبهة ضمن ملتقى البعث الحواري بالسويداء، يقدّم فيه عضوان من قيادة فرع الجبهة عن هذه المناسبة، أحدهما يمثل التيار القومي (نصر كرباج: وحدوي اشتراكي) والآخر يمثل التيار الماركسي (نوفل عدوان: بصفته أمين اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي السوري الموحد)، وأدار الحوار رئيس مكتب الإعداد بفرع البعث (أنور الحسنية).

السويداء 7/ آذار/ 2022

 

 

للحديث عن الجبهة الوطنية التقدمية؛ ينبغي النظر بشكل موضوعي إلى ظروف إنشائها، ودورها في السنوات اللاحقة، وكذلك إلى واقعها الراهن وآفاقها أيضاً.

ويعتبر قيام الجبهة إنجازاً سياسياً وفكرياً هاماً؛ فقد جاءت بعد فشل محاولات صهر الأحزاب الموجودة في تنظيم واحد، أُطلِقَت عليه أسماء مختلفة كالاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، وأتت أيضاً بعد صراعات حادة وقعت بين التيارات القومية والتيار الماركسي، وأتت كذلك، بُعيد عمليات التحول الاجتماعي العميقة التي جرت في سورية؛ كالتأميم، وتطوير الإصلاح الزراعي، وتوسيع دور الطبقة العاملة وتنظيمها النقابي، ودور المنظمات الفلاحية وغيرها.

إضافة إلى هذه العوامل الداخلية؛ هناك العامل الخارجي، المتعلق بالموقف من الإمبريالية والصهيونية، والموقف من قوى الحرية والتقدم والسلام، ومن منظومة الدول الاشتراكية.

فكان قيام الجبهة تعبيراً عن ذلك كله، وانعكست هذه التوجهات في ميثاقها، الذي يعتبر برنامجاً نضالياً للبلد ولقواه الوطنية والتقدمية.

وكانت انطلاقة الجبهة من عامل أساسي يتعلق بمصير الوطن كله؛ وهو تحرير الأرض واستعادة الجولان وباقي الأراضي العربية المحتلة، ولعبت دوراً في توحيد مختلف القوى في المعركة ضد الإمبريالية والصهيونية، وفي تعزيز أواصر الصداقة مع القوى الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي.

وكانت الجبهة تقدمية المحتوى الاجتماعي والاقتصادي، لنهجها، وللهدف الكبير الذي وضعته وهو إقامة الاشتراكية على أسس علمية.

ولعبت دوراً مفصلياً في قضايا جوهرية تمس مصائر الشعب السوري؛ فساهمت في صياغة الدستور وإقراره، وشكلت محور الصمود في مواجهة الردة الرجعية في تخوم السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كما ساهمت في تقرير وتعزيز وحدة البلاد في المعارك الوطنية ضد العدوان الإسرائيلي، وفي تعزيز الالتفاف حول القوات المسلحة السورية، وكان ذلك جلياً في حرب تشرين عام 1973.

وقد كانت الجبهة، عملياً، هي محور البناء السياسي في البلد؛ فمجلس الوزراء ومجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية وقيادات النقابات العملية والفلاحية والمهنية؛  كانت جميعها تقوم على أسس جبهوية، عبرها تُقدّم الآراء والمواقف وتناقش بشكل أخوي ورفاقي، وعبر مؤسسات الجبهة كانت تناقش مختلف القضايا الوطنية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهي، حسب ميثاقها، معنيةٌ بإقرار السلم والحرب، ولإقرار الخطط الخمسية، ورسم خطط التثقيف القومي والاشتراكي، ووضع المنهاج المرحلي، والمناهج المرحلية للتطور القادم، وأقرّت إنشاء مكتبين هامّين هما: مكتب الإعلام والتوجيه، ومكتب التنسيق والاتصال.

وعندما تذكر الجبهة؛ لابد من ذكر دور الرئيس الراحل حافظ الأسد، في المبادرة لتحقيق هذا التحول الكبير في حياة البلاد السياسية، وتحويل هذا الإنجاز إلى واقع ملموس بعد تجاوز الكثير من العثرات والصعوبات.

واليوم، مازالت الجبهة الوطنية التقدمية، من حيث المبدأ، تشكل ضرورة موضوعية وأساسية في حياة البلاد؛ لإنجاز المهام الوطنية والاجتماعية، وقد عبّر عن ذلك الرئيس بشار الأسد حيث قال: (لو لم تكن الجبهة موجودة لعملنا لأجلها).

لقد قام العمل الجبهوي على أساس النشاط المشترك لأحزابها، وفي الوقت نفسه تمكين كل قوة من مكوناتها من العمل وحدها في ميادينها، وحصيلة ذلك يصب في المجرى العام وبوزن نوعي أكبر تأثيراً من الجمع الكمي للأعمال المنفردة لهذه المكونات. وقد أكد ميثاق الجبهة على تعزيز التعددية والديمقراطية النابعة من حاجات شعبنا.. وتعزيز الدور السياسي لأحزاب الجبهة في التعبئة الشاملة والحوار السياسي والتفاعل الجماهيري، والمشاركة في مهمات العمل الوطني أساساً راسخاً لتعميق الوحدة الوطنية وتفعيل التعددية الحزبية والسياسية.

وفي الذكرى الخمسين لتأسيس هذه التجربة الرائدة؛ لابد من الوقفة والبحث في ما يتعلق بتطوير أدائها وعملها، وعمق تأثيرها، والآفاق التي تنتظرها.

لقد جرت التحولات الكبيرة في حياة البلاد خلال نحو عقدين ونيف من الزمن، بعضها يتعلق بالتطورات الداخلية، وبعضها يتعلق بالأزمة السورية والحرب فيها وعليها.

ونعتقد أن النهج الليبرالي الذي سارت عليه الحكومات المتتالية مع أوائل هذا القرن، هو من المبدأ، يتناقض مع الأسس التي قامت عليها الجبهة، والمُعَبَّر عنها في ميثاقها، كما سلف، وفد أدى ذلك إلى تعميق الفرز الطبقي داخل المجتمع، بين أقلية من الكومبرادور وكبار الرأسماليين والسماسرة والبرجوازية البيرقراطية، والفاسدين في أجهزة الدولة، يضاف إليهم الحيتان الجدد وتجار الحروب، وغالبية الشعب السوري التي أصبحت على حافة الفقر وما دونها، وهذا مرتبط أيضاً بتقليص دور الدولة الرعائي، وتخليها عن دورها الرائد في التجارتين الخارجية والداخلية، وإهمال إصلاح القطاع العام الصناعي تمهيداً للتخلي عنه وخصخصته تحت مسمّيات مختلفة، إضافة إلى الانفتاح الذي أرهق الاقتصاد السوري وأدى إلى تراجع الإنتاج الذي وُضِعَ، دون حماية، أمام منافسة غير متكافئة مع المستوردات المماثلة، وهذه نتيجة طبيعية لتنفيذ تعليمات (وفاق واشنطن).

ومن جانب آخر، ثمة ملاحظات برزت في سياق العمل الجبهوي، يقتضي الموقف المبدئي من الجبهة والتحالفات أن يشار إليها بكل صدقية وشفافية، منها تقليص تمثيل الجبهة في معظم المؤسسات والمجالس المنتخبة، إن لم يكن فيها كلها، ويُلاحظ الترهل في آلية العمل في قمة المؤسسة الجبهوية، فبينما كان ينص النظام الداخلي على دورية اجتماعات القيادة بمعدل مرّتين كل شهر؛ تمر أشهر وأشهر دون أن تجتمع قيادة الجبهة، وأحياناً تدعى للاجتماع لتُبلَّغ فيه بقرارات أو مواقف اتُّخِذت دون مناقشتها في مؤسسات الجبهة، إضافة إلى أن الأكثرية الميكانيكية التي يتمتع بها حزب البعث في كل الهيئات والمؤسسات والمنظمات، بغض النظر عن النوعية والكفاءة، فهي تحجب تمثيل أحزاب الجبهة في هذه المجالس والهيئات، في حين يُفترض تطبيق مبادئ العمل الجبهوي في كل المجالات، وخاصة في إدارات الدولة ومراكزها القيادية، بينما يُعتبر الانتساب لحزب البعث هو الشرط الأول والأساسي لإشغال المراكز المسؤولة في الدولة. وقد نص الميثاق على (ترسيخ دور مناضلي أحزاب الجبهة ومشاركتهم الواسعة بالمؤسسات الديمقراطية المنتخبة).

إن عدم تمكن أحزاب الجبهة من استيعاب الطاقات الشبابية (لعوامل ذاتية وموضوعية) جعلتهم يذهبون في اتجاهات أخرى متعددة؛ ما بين الانحرافات والتدين، وقد بينت الأحداث أن من بين الإرهابيين وحَمَلَة السلاح ضد الدولة السورية بعض خريجي المعاهد والكليات الدينية، من سوريين وغير سوريين.

إن مثلما سبق لابد أن يترك آثاراً سلبية على روحية العمل الجبهوي ويضعف من تأثير الجبهة في ساحات العمل، ويجعله موضوعاً للتندر في الداخل، ووصفها بأنها جبهة مناسبات، (فأكثرية الرأي العام تحكم على السلوك اليومي للسلطة ومؤسساتها وليس على الخطوط العريضة فقط)، و يُتخذ ذلك مبرّراً للتهجم على كامل المنظومة الجبهوية، بحق ودون حق، خاصة من قبل الأوساط الرجعية واليمينية، وكذلك في الأوساط الانعزالية المتطرفة، ومن قبل أوساط الجماهير، وفي قواعد القوى الوطنية التقدمية، حتى إن البعض يحاول استغلال مثل هذه الثغرات لإيقاع الدسيسة بين أحزاب الجبهة ذاتها، فالحقيقة أن الجبهة رغم بعض التميز في المواقف السياسية؛ لم تقدم حلولاً لمشاكل البلاد وأحوال الاقتصاد الوطني، يضاف إلى ذلك أن السلطة التنفيذية لم تُعِر ما ينبغي من اهتمام اتجاه توصيات قيادة الجبهة.

وبهذه المناسبة؛ تجدر الإشارة إلى تميّز العمل الجبهوي في محافظة السويداء بشكل عام، فبقي محافظاً على وتيرة منتظمة لاجتماعاته في مختلف الظروف، خاصة في قيادة فرع الجبهة، ومتابعة ذلك لدى لجان الشُّعب الجبهوية، والجدية في مناقشة القضايا المحلية على وجه الخصوص. ونشير هنا إلى احترامنا للدور الذي تقوم به بعض الشخصيات الوطنية والمرجعيات المختلفة، وفي الوقت نفسه نعتقد بجدوى توسيع مشاركة القوى السياسية المنظمة في تحمل المسؤوليات الإدارية والتعبوية لإنقاذ المحافظة من العبث بأمنها وانعكاسات حالات الفلتان الموجودة، والتصدي للترويجات الانعزالية المشبوهة والمخالفة لإرثنا الوطني وأخلاقياته، ومن أجل معالجة المشاكل القائمة بما يخدم مصلحة البلد ومستقبل أبنائه.

ولأجل نهوض جاد وناجح؛ لابد من فهم الواقع بكل معطياته، للبناء على ما ثبتت جدواه، ولتصويب ما ينبغي تصويبه والانطلاق نحو الأهداف التي تحتاجها بلادنا وتلبي طموحات شعبنا.

إن تطور الأحداث والمعطيات التي أفرزتها الأزمة السورية ووجود الاحتلالات الجديدة، الأمريكية والتركية وبقايا الإرهاب، والهيمنة على الثروات الوطنية، ومشاريع التقسيم؛ تقتضي بالضرورة تعزيز عوامل الصمود، والتصدي للمهام الموضوعة أمام السوريين، وذلك بزج كل الطاقات الوطنية لإنجازها، وفي المقدمة منها تعزيز وتطوير الجبهة الوطنية التقدمية بتفعيلها وتطوير كل حزب من أحزابها، وإفساح المجال المتساوي أمام الجميع من أجل ذلك. فقوة الجبهة من قوة مكوناتها، وإضعاف أي منها هو إضعاف للجسم الجبهوي بمجمله، فليكن العيد الخمسون للتأسيس مناسبة لتطوير الجبهة انطلاقاً من ميثاقها ومهامها، ولتعميق دورها في حياة البلاد.

كما ينبغي أن تصبح الجبهة قوة جذب لبقية القوى الوطنية والتقدمية والعلمانية، لمواجهة الفكر الظلامي التكفيري والإرهابي، وذلك بالانفتاح، وإجراء تغيير ديمقراطي، وإطلاق الحريات العامة التي كفلها الدستور، والتي هي أساس الديمقراطية (كما جاء في الميثاق)، ورفع الوصاية عن المنظمات الشعبية والنقابات المهنية، وتمكين الجميع من قول آرائهم دون حرج أو مساءلة، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، والتعاون مع كل من يتبنى سياسة الدفاع عن المهام الوطنية والاجتماعية، وفتح حوار شامل بين كل مكونات الشعب السوري؛ للاتفاق على سبل الخروج من هذه الأزمة المركبة التي تعصف ببلادنا، ولحل المسألة السورية بأيدي السوريين أنفسهم دون التدخلات والإملاءات الخارجية التي تلعب دوراً مؤججاً لصراعات سياسية وطائفية وقومية ومناطقية. وتهدف لتدمير الدولة السورية وإغراق شعبها في حروب ونزاعات طويلة الأمد.

ومن جانب آخر، ينبغي القطيعة مع النهج الليبرالي وعودة الدولة لدورها القيادي في القطاعات الاقتصادية، ولدورها الرعائي لمصالح الأكثرية الساحقة من أبناء شعبنا بعماله وفلاحيه ومثقفيه وكل المنتجين، والقيام بإصلاح سياسي وإداري شامل على أسس ديمقراطية، ومتابعة النضال لتحرير كل شبر من الأراضي السورية ودحر الإرهاب، ومن أجل سورية الدولة السيدة الحرة والمستقلة والموحدة أرضاً وشعباً، تعددية، ديمقراطية، لكل أبنائها على أساس المواطنة والمساواة وسيادة القانون.

  • أمين اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي السوري الموحد في جبل العرب
العدد 1140 - 22/01/2025