من كلمة حنا غريب (الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني) في افتتاح المؤتمر الوطني 12 

أيتها الرفيقات والرفاق، نفتتح أعمال المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزبنا الشيوعي اللبناني بالنشيد الوطني اللبناني ونشيد الحزب، وبالوقوف دقيقة صمت تقديراً لأرواح الشهداء والرفاق الذين غادرونا في السنوات الماضية، شهداؤنا هم ينبوع عطائنا وتضحياتنا التي لا تنضب ولن تنضب.

كانوا بوصلة الصراع في أحلك الظروف وأصعبها، وعلى خطاهم نحن سائرون، خطا فرج الله الحلو، وجورج حاوي، وحسين مروة، ومهدي عامل، وأحمد المير الأيوبي، وكل الشهداء الذين حملوا السلاح منذ ثلاثينيات القرن الماضي، من إبل السقي مع عساف الصباغ، إلى شهداء مجزرة حولا وشهداء قوات الأنصار والحرس الشعبي والحرب الأهلية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول).

درب هؤلاء الشهداء هي درب كل الكادحين الذين سالت دماؤهم في التظاهرات الوطنية والنقابية، هي أغلى من كل كنوز الأرض وما عليها، لأنها جسّدت عبر تلك التضحيات والملاحم البطولية المثُل العليا للشيوعية والاشتراكية وكل معاني التحرر الوطني والاجتماعي لشعوبنا العربية وقضيتها المركزية فلسطين، وفي سبيل تحقيق أحلام شعبنا في وطن حر وشعب سعيد.

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،

مئة رفيقة ورفيق شاركوا في تحضير مشاريع الوثائق الأربعة للمؤتمر الوطني الثاني عشر (الوثيقة الفكرية – السياسية- البرنامجية، التقرير التقييمي التنظيمي ، تقييم انتفاضة 17 تشرين، ومشروع التعديلات المقترحة على النظام الداخلي).

كما عقدت عشرات الاجتماعات الحضورية للجان الفكرية والسياسية والنظام الداخلي والإجراءات واللجنة المشتركة واللجنة المركزية ولجنة الصياغة النهائية. كانت اللجان التحضيرية مفتوحة لمشاركة كل من يرغب من أعضاء اللجنة المركزية التي أشرفت على أعمال التحضير للمؤتمر من ألفها إلى يائها، وضمن أوسع مشاركة ممكنة من جانب الرفاق من خارج اللجنة المركزية، وبشكل ديمقراطي – تنظيمي، مع توزيع أوراق بعض الرفاق الذين فضلوا إصدار أوراق خاصة بما يتيح لقواعد الحزب الاطلاع عليها، علماً أن الوثيقة الفكرية  قد تضمنت في طياتها آراء ومواقف متمايزة حول قضايا محددة لبعض الرفاق المشاركين وغير المشاركين في أعمال اللجان.

الرفيقات والرفاق،

بالاستناد إلى ما تقدم، يمكننا القول إن مشاريع الوثائق قد أنتجت بآليات ديمقراطية ضمن ما تسمح به لائحة إجراءات عقد المؤتمر الثاني عشر والنظام الداخلي. وهذه المشاريع، بما تضمنته وما بذل من جهود لإنتاجها، كانت محط تقدير وارتياح في قواعد الحزب. وشاركت 94% من منظمات الحزب في الداخل والخارج في نقاش هذه المشاريع، على مدار 327 جلسة نقاشية، ووصل هذا العدد مع إنجاز الجلسات الانتخابية إلى 453 جلسة.

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،

لقد أجمعت مسودة الوثيقة الفكرية – السياسية على أن الماركسية – اللينينية تشكل مرجعية الحزب الفكرية. كما أكدت على ازدواجية بنية الرأسمالية العالمية، أي وجود بنية إمبريالية مسيطرة من جهة وبنية رأسمالية تابعة من جهة أخرى. وهذه الازدواجية في بنية الرأسمالية تجعل النضال الطبقي في بلادنا (في مواجهة الرأسمالية التابعة) جزءاً لا يتجزأ من النضال من أجل التحرّر الوطني (في مواجهة الرأسمالية المسيطرة). وبعيداً من الجمود العقائدي برزت تمايزات واجتهادات، لا سيما عندما يغوص التحليل في التفاصيل حول مسألة أو أخرى. والمعالجة في هذه الحالة تكون بالتأكيد عبر مواصلة البحث والاجتهاد وتفاعل الأفكار بدل الانجرار إلى لغة الإلغاء والتخوين.

مثل هذه التوازنات الجديدة تطرح مهمة تاريخية أمام الحركة الشيوعية واليسارية والقوى الديمقراطية في عالمنا العربي، بوجوب تحمل مسؤولياتها وأخذ دورها المطلوب منها، بالاستفادة من هذه التوازنات الجديدة لمصلحة استنهاض مشروعها في التحرر الوطني ضد مشاريع السيطرة الامبريالية والصهيونية ومواجهة مخاطر الأزمة الوجودية التي تعصف بعدد من دول المنطقة وتهدّد بتفككها في العراق واليمن وليبيا وسورية ولبنان. مشروع تحرري يملأ الفراغ ويمنع ما قد تفضي إليه المفاوضات الدولية والإقليمية في فيينا وعلى غير صعيد، احتمالات التسويات وتقاسم النفوذ على حساب حقوق شعوبنا العربية ومنطقتنا.

وتنطبق هذه المهمة التاريخية علينا كما تنطبق على كل حركة ثورية في عالمنا العربي. إن حجم التآمر الإمبريالي الصهيوني الرجعي، والتوظيف المتمادي في الأصوليات والحركات الاسلامية التابعة له، والترسيخ المتزايد لدور الأجهزة العسكرية، والانخراط الصريح والعلني للأنظمة العربية المطبّعة، وبخاصة دول الخليج، في ممارسة الخيانة المعلنة والتسابق على تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني تنفيذاً لصفقة القرن.

وإنه لمن واجبنا، كأحزاب شيوعية عربية وكيسار عربي، السعي إلى استخدام كل أشكال النضال الملائمة والمطلوبة، كلّ في بلده بالدرجة الأولى وعلى المستوى القومي عموماً، بغية بلورة مشروع إنقاذيّ جذريّ بديل يتصدّى لمهمّة ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار حركة التحرر في عالمنا العربي. ويجب أن تكون لهذا اليسار هويته الواضحة ومبادئه وقيمه القائمة على التصدّي للإمبريالية والصهيونية، وعلى خوض النضال الدؤوب من أجل تفكيك التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية.

كما يجب أن يكون هذا اليسار وفيٌاً للمبادئ الديمقراطية ولقيام دول عربية علمانية مقاومة، لا دول قائمة على أساس ديني وطائفي وإثني تبرّر للكيان الصهيوني (دولته) العنصرية المبنية على أساس ديني. ومهمّة هذا اليسار يجب أن تتركّز بالضرورة على النضال ضد الاستغلال، ومن أجل مصالح الجماهير العربية الكادحة الطامحة إلى تحسين شروط حياتها المعيشية، وعلى خوض معركة التغيير الديمقراطي ضد أنظمة القمع والاستبداد والإقصاء، بحيث يثبت لهذه الجماهير أن مقاومته ضد العدو تتجاوز تحرير الأرض إلى تحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي والاجتماعي.

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،

يعيش لبنان اليوم أزمة وجودية غير مسبوقة في تاريخه إثر سقوط نظام الطائف، واستمرار الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتحلّل مؤسسات الدولة واضمحلال خدماتها، وعجز تحالف القوى الطائفية والرأسمال عن احتواء الأزمة بقواها الداخلية، ما يجعل الوضع في البلاد مفتوحاً على كل الاحتمالات والمخاطر، لا سيما خلال الأشهر الثلاثة المقبلة التي تفصلنا عن الأنتخابات النيابية، إذا جرت…

ولا يتورّع التحالف الحاكم عن طرح مشاريع الحياد والفدرالية والمثالثة مع لجوء أطرافه – كلّ على طريقته – إلى ترسيخ قوانينه وأنظمته الخاصّة وتدبير أمور (دويلته) و(مناطقه) في محاولة لفرضها حين يأتي أوان التسويات الدولية والإقليمية. وإذا ما اختلفت أطراف هذا التحالف فإنما هي تختلف على المصالح والحصص وعلى من يمتلك القرار السياسي والمالي في التسويات المقبلة، وهي لا تتوانى عن التهديد بأخذ البلد نحو الفوضى دفاعاً عما تعتبره حصّتها في هذه التسويات.

مع استمرار تفاقم الأزمة في لبنان، ماذا سيكون عليه دور الحزب في ظل هذه المخاطر؟ ما هي المهمة المركزية المطروحة أمامه؟ وأية خطة سياسية وأولويات مرحلية نستطيع من خلالها أن نراكم النشاط والجهد وفق استراتيجية واضحة لعملنا؟

لقد بذلنا جهوداً جبّارة طوال ثلاثين عاماً حتى لا نصل إلى ما وصلنا إليه، ودفعنا أثماناً باهظة، وكنا في مقدمة الصفوف مع رفاق وأصدقاء وقوى وطنية ويسارية وعلمانية ومدنية لاطائفية قبل الانتفاضة، وخلالها وبعدها، من أجل تجميع القوى وبناء التحالف السياسي والطبقي الضروري لإنضاج البديل وتعديل موازين القوى. والسؤال الوجيه: لماذا لم يتمكن الحزب من تشكيل هذا التحالف القادر على تجاوز المعوقات؟ علينا أن نقدم إجابات واضحة حول هذه المعوقات وأسبابها، والتي يتمثّل الأهمّ منها في الآتي:

على صعيد البنية الطبقية، تراجع الوزن النسبي للطبقة العاملة بسبب طغيان النمط الاقتصادي الريعي، برافعتَيه الأساسيتين: المالية، والعقارية، منذ مستهلّ التسعينيات، وكذلك بسبب الانخفاض المدوّي في وزن القطاعات المنتجة وتدهور اقتصاد الأرياف، ووقوع فئات وازنة من المنتجين ضحايا لتزايد نفوذ الاحتكارات، وتحكّم المصارف بقنوات التسليف، وازدياد العبء الضريبي، وبيروقراطية جهاز الدولة الإداري. ومع ذلك، فإن البنية الخدمية الغالبة في الرأسمالية اللبنانية لم تحُل دون استقطاب نسبة وازنة من مجموع العاملين بأجر في مؤسسات كبرى في قطاعها الخدمي. لقد ترسّخ الاستخدام الوظيفي للطائفية، فأصبحت الأحزاب الطائفية هي الطائفة، وانسحبت آثارها التفتيتية ديموغرافياً وسكنياً وفي سوق العمل وأجهزة الدولة وتعييناتها الوظيفية، كما في التعليم والإعلام والثقافة ومجمل آليات العملية الانتخابية وغيرها. وهذا ما يجعل مسألة تعطيل تلك الأداة مهمة محورية بالنسبة إلى الحزب كي يتمكّن من تحقيق أهدافه.

ما العمل؟

إن التغيير الديمقراطي في لبنان هو عملية تغيير في النظام السياسي وطبيعة السلطة وسياساتها وتحريرها من سيطرة وممارسات التحالف السياسي القائم، الذي يسخّر الدولة للمصالح الفئوية ويترك البلد ساحة مستباحة للقوى الاستعمارية والرجعية العربية، وذلك كمدخل لوضع حد للتبعية والتفكك الاقتصادي.

هذه المقاربة تستند إلى رؤية واضحة للخيار السياسي والاقتصادي المبني على ضرورة بناء تحالف طبقي – سياسي يحمل خياراً اقتصادياً – اجتماعياً متحرراً من الإلزامات الإكراهية للموقع الذي وضعته فيه القوى الطبقية المسيطرة، بنسختها القديمة كما بتلك التي استجدت بعد اتفاق الطائف ضمن التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل بصفته نظام خدمات، وسوقاً للاستهلاك.

إنه خيار يؤسس لتطور وطني قائم على قراره الحر اقتصادياً من جهة، وعلى رؤية وطنية واضحة في مواجهة خطر الكيان الصهيوني الذي يشكّل قاعدة متقدمة للإمبريالية في وطننا العربي من جهة ثانية.

إن الحزب الشيوعي سوف يناضل ويكافح: ضد الخطر الصهيوني والتدخلات الأجنبية (لا سيما الأمريكية)، ضد خطر التقسيم والفيديرالية والحياد ضد الثنائيات (على أنواعها) وخطر العودة إلى أجواء الحرب الأهلية واستخدام الشوارع الطائفية والمذهبية وخطاب الشحن الطائفي، ضد استخدام الدين وسيلة سياسية سلطوية لحماية المرتكبين، ضد الاستسلام لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ضد خصخصة الأصول العامة وبيعها ونهبها، ضد تقاسم النفوذ في البلد غداة أي اتفاق أمريكي_ إيراني قد يحصل حول الموضوع النووي، ضد استمرار حالة الإنكار عمّن تسبّب بالانهيار ونهب المال العام وتهريب الأموال إلى الخارج، ضد استمرار الاحتكارات والسرية المصرفية والتمثيل التجاري، ضد تعطيل آليات المحاسبة والتهرب من المسؤولية في جريمة انفجار المرفأ، ضد السياسات المالية المتحيّزة والنظام الضريبي غير العادل، ضد الاستمرار في تدمير مرافق البنى التحتية ونظم الخدمات العامة الأساسية.

أما الهدف المرتجى من النضال ضد هذه المخاطر كلّها فهو من أجل:

  • التأسيس لبناء الدولة الديمقراطية العلمانية في لبنان، في هذا الجزء الحيوي من المشرق العربي.
  • حماية المصالح الفعلية لغالبية اللبنانيين والكادحين منهم على وجه الخصوص.
  • تحسين شروط عيشهم وتعليمهم وعملهم.
  • توفير شبكات الحماية الصحية والاجتماعية لهم وتحفيز نشاطهم وحراكهم.
  • تعديل موازين القوى السياسية والاجتماعية القائمة، وبناء التحالف الاجتماعي والسياسي، إطاراً جامعاً للتغيير، وبالتغيير أيضاً نقاوم.

 

كلنا معاً، أيتها الرفيقات والرفاق، يداً بيد، لنؤكد على إنجاح مؤتمرنا ليكون:

على مستوى آمال الشيوعيين واليساريين والوطنيين وطموحاتهم، على مستوى تطلعات وانتظارات شعبنا بأسره، عمالاً وطلاباً ومثقفين ونساء وشباباً، طحنهم استغلال النظام الرأسمالي وفساده، ونهب ثمرات عملهم وجهدهم، وأقفل باب الحياة الحرة الكريمة أمامهم، وليكن مؤتمرنا الثاني عشر تأكيداً وتجسيداً لحزبنا المقاوم والمناضل من أجل التحرير والتغيير، من أجل وطن حر وشعب سعيد.

عاش المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزبنا الشيوعي اللبناني!

والمجد والخلود لشهدائه الأبرار!

العدد 1140 - 22/01/2025