سورية في شرك الخواء الثقافي للعولمة

أوائل تسعينيات القرن الماضي بدأت الهبات السديمية الأولى للعولمة الثقافية الأمريكية في اختراق ثقافتنا السورية التي أقعدها على كرسي الشلل مقص الرقابة الأمنية، والتي كانت لعدة عقود مضت رغم المقص ثقافة تقدمية يسارية إنسانية مزدهرة بالحيوية والأمل، فجعل منها مناخاً مستباحاً لاحتوائها أمريكياً بلا عوائق.

وسرعان ما انحدرت من شعبية الثقافة، كمفهوم تقدمي تنموي يرتقي بوعي الناس معرفياً، مدنياً، حقوقياً، حضارياً، أخلاقياً، وطنياً، إلى الثقافة الشعبية، كمفهوم غربي ليبرالي وحشي مرتبط بالسوق وحاجاته وغرائزيتة، فينحدر معها المجتمع من مجتمع تهيأ ليكون منتجا للثقافة، إلى مستهلك ومتلقٍّ لها، وسرعان ما انتشر مفتو هذه الثقافة الجديدة وكهنتها يبشرون بالحرية والانعتاق من الأيديولوجيا، والتحرك في الفضاء الكوني الرحب في تثاقف ندّي مع العالم وبثقافة سورية محصنة بهوياتها التراثية الماضوية الإسلامية والمسيحية التي لا يمكن خرقها، وكل ذلك بغرور معرفي منقوص، فوقي وزائف ومكرر يغطي الحقيقة المؤلمة، وهي أن نكوصية هذه الثقافة ورجعيتها الموسومة بالمعاصرة لم تكن سوى أصداء مترددة محلياً لنهاية التاريخ عند فوكوياما، وصراع الحضارات عند هانتنغتون، والتزام ضمني في تصورهما للعالم رغم شعارها المرفوع في ازدواجية ساذجة (ممانعة الغزو الثقافي للعولمة).

كان أول نماذج الثقافة الجديدة، كتاب رئيس سابق لاتحاد الكتاب العرب بدمشق (المثقف العربي والمتغيرات) – الصادر عن الاتحاد عام ،1995 فالرجل حشد ما بوسعه من شعارات الممانعة والمقاومة ورفض التطبيع، ولكنه في الوقت نفسه تعاطى مع متطلبات العولمة الأمريكية وأهدافها في مسألتين جوهريتين كفيلتين بإسقاط كل تلك الشعارات.

 الأولى: الإفتاء بهوية إسلامية للثقافة السورية بكل قيمها ومقوماتها وتاريخها وموروثها ولغتها وأصالتها- على حد تعبيره – كحدود للوطن وكوعي معاصر لخصوصيته وكوعاء يصهر كل التيارات بما فيها العلمانية في بوتقته.

الثانية: الانقضاض على كل الإرث الثقافي التقدمي وإظهار شبحيته وشيطنته ومحوه من الذاكرة الشعبية والوطنية، ففي الكتاب تحامل وسيل من الاتهامات الزائفة الملصقة بالشيوعيين السوريين، ووصف للصراع الطبقي بأنه مصدر الأزمات الداخلية بما يعنيه ذلك من تخلٍّ، لا عن نهج من مناهج حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه فقط، إنما عن جدلية تلازم النضالين الطبقي والوطني.

هاتان النقطتان هما جوهر العولمة الأمريكية ومحور نشاطها، وهما متحققتان في دعوة هذا الرئيس، وقس على هذا بدءاً من تاريخ صدور الكتاب فصاعداً وفي مختلف فروع الثقافة حتى ألبس الخطاب الديني العربي الإسلامي عباءة العلم والمعرفة والحكمة والجمال والممانعة والمقاومة وحتى الثورة، كما بدا في الدراما السورية الممولة خليجياً كباب الحارة.

عام 2001 خرجت من ندوة (الهوية والعولمة)التي أقيمت في فندق ميريديان اللاذقية ضمن فعاليات مهرجان المحبة متوتراً بعد ما سمعته من محاضرة الدكتور أسعد عرابي، الباحث في علم جمال الفن العربي الإسلامي، الذي افتتحها مطمئناً بأن العولمة إن كانت قد وجدت طريقها إلى المنطقة اقتصاديا وغير ذلك، فالحمد لله أنها لم تجد طريقها إلينا ثقافياً، كانت ثمة أسئلة تؤرقني حول ما إذا كان الدكتور عرابي المقيم في باريس قد لاحظ التحولات الخطيرة الطارئة على الثقافة السورية أم أنه أحد رموز هذه التحولات ؟خاصة أن محاضرة الدكتور عبد العزيز علون التي سبقت محاضرته لم تخلُ من الإشارة إلى شركاء محليين يسوقون للعولمة في كل مكان من العالم، لكن الصدمة الأشد وطأة علي في إطار تحولات الثقافة السورية كانت جواب وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا آنذاك على سؤال طرحه مذيعbbc حول انتشار ظاهرة الحجاب في سورية بشكل واسع، فكان رد الوزير: (الحجاب هو قول كلمة لا لمن يريد العبث بالعروبة والإسلام).

وبغض النظر عن مناقشة هذا الرد لكنه يعطي تصوراً مؤكداً على طبيعة الممانعة السورية المفلسة اعتمادا على حصون تراثية أرادت العولمة ذاتها أن تتحصن ثقافتنا بها، كما يعطي تصوراً عن النهج الرسمي لهذه الممانعة،

الوزير نفسه الذي كان مفتوناً بإعلان القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية وبالمؤتمر الإسلامي السادس لوزراء الثقافة في باكو 2009 منع، بحجج واهية، مؤتمراً للمثقفين العلمانيين كان من المفترض أن تستقبله دمشق، بعد أن وجهت الدعوات للمشاركين.

اتجاه أسلمة الثقافة السورية كان تتويجاً لفشل البرامج التعليمية لوزارة التربية والتعليم على مدى عقود في تكوين وعي الفرد الاجتماعي المدني المؤمن بانتمائه الوطني والإنساني، وبالتكامل مع عمل الطوق الأمني المفروض على الأحزاب السياسية العلمانية في بيئتها الاجتماعية، وفي المقابل الحريات المتاحة لعمل وزارة الأوقاف، والإحصائيات المتوفرة لعدد المساجد في سورية مقابل الجامعات والمراكز الثقافية والصحية والمسارح ودور السينما، بإمكاننا تلمّس الدليل على ذلك النهج الذي دفع بالجماهير للسير في ركاب مرجعياتها الدينية، منفصلة عن الدولة ورافعة هذه المرجعيات إلى ما فوق الدولة، وبالتالي الكيفية التي حولت الإسلام إلى ثقل سياسي محرك بلا منازع للشارع السوري على أسسه المذهبية والطائفية.

كتب الدكتور رزق الله هيلان (الثقافة والتنمية في زمن العولمة، ص 78): (بدلًا من البحث عن جذور الأزمة في أزمة التنمية ذاتها ووقوعها في فخ العولمة، أخذ البحث منحى مختلفاً حيث اتجه إلى مفاهيم التراث والأصالة والهوية). كما كتب الباحث ميخائيل عيد: (لقد تحول الحوار مع الغرب إلى تقليد للغرب، الغرب الاستهلاكي، تحوّل الماضي الموّار بالدينامية إلى وثن… تمسكوا بالماضي وحده فخرجوا من الحاضر ولم يتطلعوا إلى المستقبل) (أسئلة الحداثة بين الشطح والخيال ص 16).

نعم، لم يتطلع أحد إلى المستقبل، فأطراف الصراع الرئيسية موالية ومعارضة كانت معولمة، الاقتصاد والثقافة المعولمين أنتجا وعياً اجتماعياً معولماً، السلطة التي عولمت اقتصادها وثقافتها لم تتدارك أنها تحاصر بنفسها قرارها الوطني المستقل بجماهير تجاوز وعيها الحدود الوطنية في آذار ،2011 والفتيان الذين قلّدوا شعارات (الربيع العربي) لم يفهموا أنهم أدوات خارجية، والمثقفون الذين صبوا الزيت على النار بنفي المؤامرة ووهم الثورة لم يستوعبوا أن الصلات العابرة للحدود مع طوائف ومذاهب وأعراق، وليس مع طبقة ثورية ووعي شعبي ثوري، لا يمكن أن يكون ثورة.

العدد 1140 - 22/01/2025