لماذا كان ماركس محقاً؟ (38)
الطبقة العاملة بالنسبة إلى ماركس هي، نوعاً ما، جماعة اجتماعية خاصة. وبما أنها تعني عنده الظلم الذي يستتبع أشكالاً عديدة أخرى من الظلم (حروب إمبريالية، توسّع استعماري، مجاعات، إبادة شعب، تخريب الطبيعة، ولحدٍّ ما العنصرية والأبويّة)، فإن أهميتها تتخطّى حيِّزها الذاتي. وهي تشبه بهذا المعنى، في أساطير المجتمعات القديمة، كبش الفداء الذي يُطرد من المدينة لأنه يمثّل الجريمة الشاملة ويملك السلطة للسبب ذاته، لأن يصبح حجر الأساس لمجتمع جديد.
بما أن الطبقة العاملة ضرورية للنظام الرأسمالي، من جهة، وهي الطبقة التي يحرمها، من جهة ثانية، فهي الطبقة التي ليست طبقة، وهي بذلك أحجية من الأحاجي. هي تخلق، بالمعنى الحرفي للكلمة، النظام الاجتماعي: وعلى عملها الدؤوب الصامت يُبنى هذا الهيكل العظيم، ومع ذلك فهي ليست ممثَّلة في هذا النظام حقّ تمثيل ولا يُعترف بإنسانيّتها. هي مفيدة، وهي محرومة من حقوقها. هي شيء خاص وعام. هي جزء متكامل من المجتمع الإنساني، وهي نوعاً ما لاشيء.
بما أن أساس المجتمع هنا يظهر متناقضاً بذاته، فإن الطبقة العاملة تحدّد النقطة التي يبدأ عندها منطق النظام الرأسمالي بالانحلال. والطبقة العاملة هي القيمة التي لا تُقدَّر في حضارتنا. هي العامل الذي ليس في الداخل تماماً وليس في الخارج تماماً. هي المكان الذي يُجبر فيه هذا النوع من الحياة على التصدي للتناقضات التي تتألّف منها الحياة.
وبما أن الطبقة العاملة لا تشترك بشكل حقيقي في الوضع الراهن، فهي جزئياً غير مرئية فيه، ولهذا السبب، يمكنها أن تشكّل المستقبل البديل. وهي انحلال المجتمع، أين فيه، هي القمامة التي لا مكان لها، حقيقة، في النظام الاجتماعي. لذلك تُوضّح لنا الطبقة العاملة مدى شموليّة الهدم والبناء الجديد اللازمين لاندماجها. ومع ذلك، هي انحلال المجتمع الحالي بالمعنى الإيجابي جداً: هي الطبقة التي، عندما تصل إلى الحكم، ستُلغي جميع الطبقات بالكامل. وعندئذ سيتحرر الإنسان أخيراً من ظروف قهر طبقته، وسيحسِّن ظروف حياته كما يريد. وهي بذلك عالمية لأنها عندما تسعى لتغيير ظروفها الذاتية، تستطيع وضع خط النهاية تحت قصة مجتمع الطبقات المهترئة.
هنا نصطدم بتناقض آخر مفاده أنه لا يمكن التغلّب على الطبقة إلا عن طريق الطبقة ذاتها. لم تركّز الماركسيّة على مفهوم الطبقة لأنها توّاقة لرؤية نهايتها فقط. ويبدو أن ماركس ذاته قد رأى في الطبقة الاجتماعية شكلاً من أشكال التحوّل. فمن يُسمّي الناس عمالاً ورأسماليين، يطمر خصوصيتهم الذاتية في صنف واحد لا وجه له. ويتعلّق الأمر عندئذ بتحوّلٍ لا يمكن إلغاؤه إلا من الداخل. ويسري الشيء ذاته على الصنف البشري والجنس. فلا يكفي أن ننظر إلى كل فرد على أنه شيء استثنائي، كما يفعل بعض الأمريكان الليبراليين الذين يرون في كل واحد شيئاً استثنائياً، وربما في دونالد ترامب و(قاتل النساء في بوستون)!.
قد يكون جمع عددٍ كبير من الناس نوعاً من التحوّل، من ناحية. إلا أنه من ناحية أخرى شرط من شروط تحررهم. وكما سبق ذكره، يتقدّم التاريخ عبر أحداثه (السيئة). والليبراليون حسنو النيّة الذين يرون في كل عضو من أعضاء حركة التحرر الروريتانية فرداً خاصاً، لم يفهموا هذه الحركة التي تهدف إلى تحرير كل روريتاني حتى يشعر بذاته. ولو استطاع ذلك الآن، لأصبحت حركة التحرر ذاتها لا لزوم لها.
عندما تنظر الماركسيّة إلى الطبقة العاملة، فإنها تنظر، بمعنى آخر، إلى ماهو أبعد منها. لا يخطر ببال أي اشتراكي يحترم نفسه أنَّ الطبقة العاملة وحدها قادرة على إسقاط النظام الرأسمالي. لابد من تشكيل تحالفات سياسية. وقد رأى ماركس ذاته أنه على الطبقة العاملة أن تدعم صغار الفلاحين، ليس فقط في دول مثل فرنسا وروسيا وألمانيا،فقد شكّل عمال الصناعة الأقلية. كما حاول البلاشفة تشكيل جبهة موحّدة تتألف من العمال وصغار الفلاحين الفقراء والجنود والمثقّفين في المدن وغيرهم.
يجب أن نفترض أيضاً أن البروليتاريا أصلاً لم تكن لتشمل الرجال فقط، وإنما النساء من الشرائح الدنيا للمجتمعات القديمة أيضاً. وتُشتق كلمة بروليتاريا من كلمة لاتينية تعني (السليل أو الخلف) ووصفت النساء اللواتي لم يستطعن خدمة الدولة إلا بواسطة بطونهن. فقد كنّ فقيرات لدرجة أنهن لم يُسهمن في اقتصاد البلد إلا عن طريق إنجاب الأولاد، فلذّات أكبادهن: قوى عاملة جديدة. لم يطلب المجتمع منهن الإنتاج، وإنما الإنجاب. وهذا يعني أن بداية البروليتاريا كانت خارج نطاق العمل، وليس داخله، ولم تعانِ طبقة البروليتاريا الأولى من فقر وآلام بأقل مما عانته البروليتاريا اللاحقة.
وحتى اليوم، في زمن (المحالّ الحلوة)، وهي كناية عن الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل الطبقة العاملة في الخارج، والعمل في أرياف العالم الثالث، نجد أن عنصر البروليتايا النموذجي لا يزال هو المرأة دائماً. الأعمال المكتبية التي كان يقوم بها في العصر الفكتورياني رجال من أسفل الطبقة الوسطى، أصبحت الآن عملياً حكراً على النساء من الطبقة العاملة اللواتي أصبحت أجورهن أقل من أجور العمال المساعدين. كما كانت النساء أيضاً هنّ اللواتي عملن بائعات في المحلات التجارية وعناصر سكرتاريا في المكاتب عندما توسّعت أعمال هذه القطاعات الاقتصادية بسبب تراجع الصناعات الثقيلة بعد الحرب العالمية الأولى. وفي أيام ماركس لم تكن الطبقة العاملة في الصناعة تشكل أكبر مجموعة من العاملين بأجر، وإنما الخدم في البيوت، وكان معظمهم من النساء.
ليست الطبقة العاملة إذاً دائماً من الرجال ذوي العضلات والمدرّبين على استخدام المزربّات. وإذا كنتم من هذا الرأي، فلا شك أنكم سترتبكون قليلاً عند سماع رأي عالم الجغرافيا دافيد هارفي (من أن (البروليتاريا) في العالم قد أصبحت أوسع انتشاراً من أي وقت مضى). إذا فهمنا الطبقة العاملة على أنها عمال المصانع التقليديين، فلا شك في أنها قد تقلّصت بالفعل إلى حدٍّ بعيد في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، حتى وإن كان ذلك جزئياً، بسبب تصدير نسبة مئوية كبيرة من هذه الأعمال إلى الدول الفقيرة، إلا أنه يبقى صحيحاً أن العمالة في الصناعة قد تراجعت في العالم. وحتى عندما اعتُبرت بريطانيا ورشة العالم، كان عدد العمال في الصناعة أقل بكثير من عدد العاملين في المنازل والريف.
لكن المنحى العام المتمثِّل في تناقص الأعمال اليدوية وازدياد الأعمال المكتبية ليس ظاهرة خاصة بعصر (مابعد الحداثة)، بل يمكن على العكس تتبّعه حتى بدايات القرن العشرين.
لم يقل ماركس بأن على الإنسان أن يعمل عملاً يدوياً حتى يُعدَّ من الطبقة العاملة. وقد صنّف في (الرأسمال) مستخدمين في الأعمال التجارية مثلاً كالعمال في الصناعة، وامتنع عن أن يجعل البروليتاريا فقط من العاملين في الإنتاج، أي من العمال الذين يصنعون البضائع مباشرة. وأكثر من ذلك، فقد شملت الطبقة العاملة عنده الجميع الذين يبيعون قوةّ عملهم لصاحب المال ويخضعون لشروطه القاسية وليس لهم تأثير كبير على ظروف عملهم. وبشكل سلبي، يمكن أن نصفهم بأنهم قد يكونون أكبر المستفيدين من سقوط النظام الرأسمالي. وبهذا المعنى يمكن أن نعدّ في عدادهم المستخدمين العاديين من غير المؤهّلين وسيئي الأجر والعاملين في أماكن عمل غير مضمونة ومن لهم تأثير قليل على عملية الإنتاج. إلى جانب الطبقة العاملة في الصناعة، هناك أيضاً الطبقة العاملة من ذوي الياقات البيضاء التي تشمل عدداً كبيراً من المستخدمين الفنيين والإداريين. والطبقة، كما يجب أن نتذكّر، لا تتعلّق فقط بظروف الملكية القانونية، وإنما أيضاً بإمكانية ممارسة سلطة على الآخرين للصالح الخاص.
يستحضر أولئك، الذين يودّون دفن مفهوم الطبقة العاملة بسرعة، قطاعات الاقتصاد التي تشمل الخدمات والمعلوماتية والاتصالات. وبالفعل فقد جلب الانتقال من عصر الصناعة إلى عصر الرأسمالية المتأخّرة ورأسمالية الاستهلاك و(مابعد الصناعة) أو (مابعد الحداثة) تحوّلاتٍ هائلة، كما رأينا أعلاه. ولكننا رأينا أيضاً أن لا شيء من كل ذلك قد غيَّر أيَّ شيء في علاقات الملكية الرأسمالية. بل على العكس، إذا حصل أيُّ تغيير، فلصالح توسيع هذه العلاقات وتثبيتها. وعلينا ألا ننسى أن العمل في قطاع الخدمات ليس أقل صعوبة وقذارة وإزعاجاً من العمل في قطاع الصناعة. ولا يتعلّق الأمر عندئذ برؤساء الطبّاخين في المطاعم الفاخرة أو بسيدات الاستقبال في عيادات الأطباء، وإنما أيضاً بعمال الموانئ والنقل والقمامة وطواقم التمريض في المستشفيات ورعاية المسنّين وعمال التنظيفات وتوصيل الخدمات إلى المنازل. وبالفعل، من الصعب أن نكتشف الفرق بين العامل في قطاع الصناعة والعامل في قطاع الخدمات، فيما يتعلّق بالأجر وظروف العمل وحق اتخاذ القرار المشترك. فمن يعمل مأمور مقسم هاتف يُستغلّ تماما كزميله العامل في منجم الفحم. ولا تخدم لافتة (الخدمات) أو (الياقات البيضاء) سوى لإسدال القناع عن الفروق الصارخة بين، لنقُل، طيّار محترف وآذن مشفى، أو موظّف دولة كبير وخادمة في فندق. يقول تاونشند في هذا الصدد: (إذا لم يُعدّ المستخدمون البسطاء الذين ليس لديهم حق في اتخاذ القرارات، وليس لديهم مكان عمل مضمون، والذين يحصلون على أجور ضئيلة، في عداد الطبقة العاملة، فإن ذلك يثير غريزيّاً الشكوك.
على أية حال، تشمل صناعة الخدمات جزءاً كبيراً جداً من العمل اليدوي. وإذا انسحب عامل الصناعة وحلّ محلّه موظّف المصرف أو نادلة البار، فمن أين تأتي إذاً كل هذه الطاولات والمكاتب والبارات والحواسيب والصرافين الآليين. وهل لا يُعدّ النادل والسائق والإداري في مدرسة ومشغّل الحاسوب في عداد الطبقة العاملة لمجرّد أنهم لا يُنتجون منتجات ملموسة؟ إن مصالحهم المادّية في خلق نظام اجتماعي أكثر عدلاً، لا تختلف عن مصالح الكادحين الآخرين الذين يُستغلّون بلا رحمة. وعلينا ألا ننسى ذلك الجيش من المتقاعدين والعاطلين عن العمل والمرضى المزمنين والعمال المؤقّتين، الذين لا يشتركون بشكل دائم في عملية الإنتاج، ولكنهم يدخلون حتماً في عداد الطبقة العاملة.
بالقدر الذي تستفيد الرأسمالية من إمكاناتها التقنية (الأتمتة مثلاً) لإنتاج أكبر كمية ممكنة من البضائع بواسطة أقل عدد ممكن من العمال، فقد ازداد عدد العاملين في المجالات التقنية والإدارية ازدياداً ملحوظاً. إلا أن ذلك لا يُعدّ دحضاً للماركسية لأن ماركس قد انتبه إلى هذا المنحى. وقد كتب في منتصف القرن التاسع عشر عن الزيادة الدائمة للطبقات الوسطى، وعاب على الاقتصاد التقليدي أنه لم ينتبه إلى هذا التطوّر. وكان الحديث آنذاك عن البشر الذين يقفون في الوسط بين العمال workmen من جهة، وبين الرأسماليين واللوردات من جهة أخرى، وهذه صياغة من المفروض أن تكون كافية لتفنيد الأسطورة القائلة بأن ماركس قد قلّص تعقيدات المجتمع الحديث إلى طبقتين اثنتين شديدتي الاستقطاب. حتى أن أحد المعقّبين ادّعى أن ماركس قد رأى مسبقاً أن البروليتاريا، كما كانت معروفة في تلك الأيام، ستختفي عملياً. لن يُسقط الرأسماليّة الجائعون والمحرومون، وإنما ستسقط عندما يصبح تطبيق التقنيات العلمية المتقدمة في عمليات الإنتاج لا جدوى منها. وهي حالة ستنجم عن مجتمع مؤلّف من أفراد أحرار ومتساوين. ومهما كان تفكير البعض حول طريقة صياغة مؤلفات ماركس، إلا أن ماركس كان دون شكّ واعياً تماماً إلى أن طريقة الإنتاج الرأسمالية ستستفيد بأكبر قدر من نتائج البحوث العلمية والتقنية. وفي كتاب (الخطوط العامة) تحدّث ماركس عن أن (علوم المجتمع العامة قد أصبحت قوّة إنتاج مباشرة). وهذه جملة تستبق ما قد يصفه البعض الآن بأنه مجتمع المعلومات.