العمالة والأجور في القطاع الحكومي في البلدان النامية
يونس صالح:
تتفق المدارس الاقتصادية رغم كل اختلافها، على أن هيكل العمالة ونظم الأجور هو إحدى مشكلات الإدارة الاقتصادية الأكثر إلحاحاً واحتياجاً إلى التنظيم وإعادة الترتيب. وينصرف المقصود بالعمالة الحكومية إلى العمال والموظفين الذين يعملون بأجر، ويتقاضون أجورهم ومرتباتهم من أجهزة الحكومة المركزية، أو من أجهزة الحكم المحلي أو من منشآت قطاع الدولة. والحق أن التأمل السريع في حركة العمالة بالبلاد النامية في ربع القرن الأخير يسفر عن حقيقة واضحة، هي النمو السريع لهذا النوع من العمالة في تلك البلاد.
ويعود هذا النمو إلى أسباب مختلفة، من بينها زيادة حجم الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة كالتعليم والصحة، خصوصاً في ضوء المستوى المنخفض لتلك الخدمات، عشية حصول هذه الدول على استقلالها السياسي، وليس يخفى أن توسيع نطاق هذه الخدمات قد تطلّب توسّعاً في حجم العمالة المستغلة في قطاع هذه الخدمات، كما أن التوسع في برامج الإنفاق العام الاستثماري، وما أدى إليه ذلك من اتساع حجم قطاع الدولة، قد أسهم بلا شك في نمو العمالة الحكومية، أضف إلى ذلك أيضاً أن تكوين جيوش في هذه البلدان وأجهزة أمن، قد تطلب تكوين مؤسسة عسكرية وأمنية، تتسع لعدد كبير من العاملين. ولا يجوز هنا أن ننسى تدخل حكومات هذه الدول في محاولة منها لعلاج مشكلة البطالة، وخاصة في ظل النمو السكاني المرتفع، وعدم قدرة القطاع الخاص على استيعاب العمالة الجديدة التي تخرج سنوياً إلى سوق العمل، ذلك أن فرصة عمل كريم لكل مواطن قادر على العمل وراغب فيه، أصبحت تمثل تحدياً سياسياً واجتماعياً للنظام الاقتصادي الاجتماعي القائم. ومن هنا تتعرض الحكومات في هذه البلاد لضغوط سياسية واجتماعية واضحة لتوظيف المزيد من العمالة سنوياً.
ومع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن نمو العمالة في القطاع الحكومي ظاهرة لا تنفرد بها الدول المتخلفة عن غيرها من الدول، بل هي ظاهرة عامة تنطوي تحت لوائها أيضاً الدول الرأسمالية المتقدمة.
والحقيقة أن ظاهرة نمو العمالة الحكومية، وإن كانت واضحة في البلاد المتخلفة ذات الفائض السكاني، إلا أن البلاد التي تتسم بقلة سكانية واضحة، كما هو الحال في بلدان الخليج، قد سجلت أيضاً نمواً في هذا النوع من العمال على الرغم مما تكابده هذه الدول من نقص شديد في عنصر العمل الماهر، وفي الكوادر المدربة، مما جعلها تعتمد على عنصر العمل المهاجر إليها لسد هذا النقص.
ومع أن ظاهرة نمو العمالة الحكومية هي ظاهرة عامة في مختلفة بلاد العالم، إلا أنه من الثابت أن النمو الذي حدث في هذا النوع من العمالة، كان في حالة البلاد المتخلفة أسرع منه في حالة البلاد الرأسمالية المتقدمة.. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن التباطؤ الذي طرأ على نمو العمالة الحكومية في البلاد الرأسمالية، في السنوات الأخيرة، يعود إلى أزمة الكساد التضخمي التي تمسك بخناق هذه البلاد، وإلى انهيار الفلسفة (الكينزية) التي كانت تسير على هداها البلدان الرأسمالية في السابق، وهي الفلسفة التي برزت ودعت إلى ضرورة التوسع في حجم التوظيف الحكومي، كسياسة تعويضية لنقص الطلب الكلي الفعال لمواجهة مشاكل التقلبات الدورية في حجم الدخل والتوظف بالاقتصاد الرأسمالي. ومع انهيار هذه الفلسفة وظهور ما سمي بالمدرسة النقدية الجديدة (مدرسة شيكاغو) بدأ عدد كبير من الدول الرأسمالية المتقدمة، تحت ضغط الكساد التضخمي وقلة الموارد المالية للدولة، بدأ في تقليص حجم الخدمات العامة، ومن ثم تقليص عدد موظفي الحكومة والقطاع الحكومي.
ومهما يكن من أمر، فإن هذا النمو الواضح الذي طرأ على العمالة في القطاع الحكومي بالبلاد المتخلفة، كانت له آثار واضحة في مجال سياسات التوظيف، وفي مجال إعادة توزيع الدخل القومي، وفي سياسات الأجور، وفي الموازنة العامة للدولة، وفي مجال الأسعار والتضخم وما يرتبط بذلك من قضايا ومشاكل، وأولها هو أن النمو الذي حدث في العمالة الحكومية قد أدى إلى ارتفاع النصيب النسبي للأجور المدفوعة لعمال وموظفي الحكومي والقطاع الحكومي من إجمالي الأجور المدفوعة على المستوى الوطني، وثانيها هو أن العمالة الحكومية بالبلاد المختلفة أصبحت مجالاً رئيساً لمكافحة البطالة، بمعنى أن النسبة الكبرى من استيعاب العمال الذين يخرجون سنوياً إلى سوق العمل أصبحت تستأثر بها أجهزة الحكومة المركزية ومنشآت القطاع الحكومي، بيد أنه من الملاحظ أنه تحت ضغط عجز الموازنات العامة وقلة الموارد المالية للدولة، فإن هناك اتجاهاً في الآونة الأخيرة، لتقليص دور الدولة في مسألة العمالة، وذلك في ضوء السياسات الانكماشية التي أخذت تطبقها مؤخراً لمواجهة وطأة الأزمات الاقتصادية فيها.
كما ترتب على النمو المتزايد للعمالة الحكومية وجود ما يسمى بالبطالة المقنعة، بمعنى أن هناك عدداً من العمال والموظفين الذين هم من الناحية الشكلية، في حالة توظُّف ويتقاضون أجوراً ومرتبات، ومع ذلك فهم لا يضيفون شيئاً إلى الناتج، مما يعني أنه لو سُحب هؤلاء العمال والموظفون من أماكن عملهم، فلن يتأثر مستوى الإنتاج، بل سيرتفع متوسط إنتاجية العاملين، وهذا النوع من البطالة نراه شائعاً في الأجهزة الإدارية والمؤسسات البيروقراطية لأجهزة الدولة.. وليس هناك من علاج لمواجهة مشكلة التضخم الوظيفي، إلا من خلال العمل على إعادة هيكلة القوى العاملة، من خلال التدريب وإعادة التدريب، وتوزيع هذه القوى على مختلف القطاعات بحسب حاجتها.
والأمر اللافت للنظر أيضاً، هو أن نمو العمالة الحكومية قد أدى إلى تزايد بند الأجور في الموازنات العامة للدولة المتخلفة، وأصبح هذا البند يمتص نسبة هامة ومتزايدة من الإنفاق العام الجاري، ومع ذلك فإن معدلات الأجور في القطاع الحكومي على خلاف الأجور في القطاع الخاص، تتحدد بناء على قوانين ولوائح حكومية معينة، وغالباً لا تلعب قوى السوق دوراً يذكر في تحديدها، وحينما تسود البطالة في الاقتصاد المتخلف فإن معدلات الأجور في القطاع الحكومي غالباً ما تجتذب العمال والموظفين الجدد، أما إذا كانت سوق العمل- خارج القطاع الحكومي- رائجة، فإن الأجور التي تحددها الحكومة لا تكون في وضع يمكنها من أن تنافس أجر الوظائف البديلة.
وهنا خاصية معينة تتسم بها الأجور الحكومية، ونعني بذلك خاصية الجمود النسبي الذي تتسم به، وهي خاصية يترتب عليها آثار ضارة على التوظيف الحكومي، وخصوصاً إذا أدخلنا التضخم (الارتفاع المستمر في الأسعار) في الاعتبار، وقد ترتب على ذلك:
* هروب الكفاءات والمهارات المدربة من القطاع الحكومي للاشتغال بالقطاع الخاص المحلي، أو للعمل خارج البلاد.
* إن هروب هذه الكفاءات والمهارات قد أثر ويؤثر على كفاءة الإنجاز في القطاع الحكومي وفي الخدمات المدنية.
* استشراء ظاهرة الرشوة والفساد الإداري، من خلال استغلال السلطة للحصول على دخول غير مشروعة.
وليس يخفى على أحد، أن العمالة الحكومية في البلاد المتخلفة، تتسم بالاختلال في هيكلها، فبينما تعج أجهزة الحكم المركزي ومنشآت القطاع الحكومي بالموظفين غير المهرة، نجد أن هناك نقصاً واضحاً في الفنيين والاختصاصيين وذوي المهارات الخاصة.. ومن هنا فإن ظاهرة البطالة المقنعة تنتعش بشكل واضح في قطاع التوظيف الحكومي، وتعد عقبة (الأجور المنخفضة) التي تقدمها الحكومة لعنصر العمل الماهر، أحد العوامل الهامة في تفسير هذا الاختلال، فضلاً عن عدم وجود تخطيط سليم للتعليم يواكب الاحتياجات الفعلية من مختلف التخصصات، هذا فضلاً عن نتائج سياسة التوظيف الحكومي المتعلقة بمكافحة البطالة.. ومن هنا يجب أن نفرق بين إمداد القطاع الحكومي بالعاملين المهرة والأكفاء، وإمداده بالعاملين لمواجهة مشكلة البطالة.
وأخيراً وليس آخراً، تتميز الأجور المدفوعة من قبل الحكومة وقطاع الدولة بعدم وجود ربط واضح ومعلوم بينها وبين الإنتاجية، فالأجور والترفيعات والعلاوات تُحدَّد بناء على قوانين ولوائح، ليس لها في أغلب الأحوال أية صلة بكفاءة الإنجاز، بل إنه في كثير من الحالات تحدث الترقية إلى وظائف أعلى بناء على اعتبارات الأقدمية المطلقة، أو المحسوبيات، دون أن يكون لذلك أية صلة بكفاءة الموظف أ العامل وبتطور أدائه.
هذه هي أهم المعالم التي تثيرها عملية رسم صورة مشاكل الأجور والتوظيف في القطاع الحكومي بالبلاد المتخلفة، من المؤكد أن مواجهة هذه المشاكل تمثل أحد التحديات الأساسية في تحسين الأداء في الخدمات الحكومية، وزيادة كفاءة الإنجاز في منشآت القطاع الحكومي وتشديد قوة الدفع لعجلات التنمية.